الأسنان ودورها في كشف الجرائم والكوارث الجماعية

المصدر : INDEPENDENT | السبت , 06 كانون الأول | : 59

تعد الأسنان دليلاً حاسماً في كشف الجرائم وتحديد هوية الضحايا، لقدرتها على الصمود وكشف بصمات العض والسجلات السنية، مما يجعلها أداة موثوقة في التحقيقات والكوارث الجماعية.

في عالم تتلاشى فيه الملامح تحت ضغط الكوارث أو قسوة الجرائم، تبقى الأسنان الشاهد الأكثر صموداً وقدرة على رواية ما خفي. فمن سواحل آسيا التي ابتلعها تسونامي عام 2004، حيث تحولت مهمة التعرف على آلاف الضحايا إلى سباق مع زمن التحلل، لم يجد خبراء الطب الشرعي دليلاً أثبت وأدق من السجلات السنية التي ساعدت في كشف أسماء المفقودين وإعادة هوياتهم إلى أسرهم.

وعلى الجانب الآخر من العالم لعبت الأسنان الدور نفسه لكن ضمن سياق مختلف تماماً، حين أسقطت بصمة عضة واحدة أحد أشهر القتلة المتسلسلين في التاريخ تيد بندي، بعدما ترك أثراً مطابقاً لأسنانه على جسد إحدى ضحاياه ليصبح ذلك الدليل المفصلي الذي أودى به إلى الإدانة.

تعد الأسنان من أهم الأدلة التي يعتمد عليها الطب الشرعي في تحديد هوية ضحايا الحوادث والكوارث، إذ تبقى غالباً على حال سليمة مقارنة بسائر أعضاء الجسم بفضل تركيبها الغني بالمعادن وقدرتها العالية على مقاومة التحلل والحرارة. وتعمل الأسنان كـ"شاهد صامت" يكشف هوية أصحاب الجثث المجهولة سواء في الحرائق أو الانفجارات أو الكوارث الطبيعية، وتتيح معرفة العمر والجنس والخلفية العرقية ونمط الحياة، وأسهمت عبر العقود في التعرف على عدد كبير من الضحايا حول العالم.

على رغم أن العظام والأسنان تعد آخر ما يتبقى من الجسم البشري، فإن الأسنان تبقى الوسيلة الأدق للتعرف على الهوية مقارنة بالعظام. وتوضح استشارية إصلاح الأسنان الدكتورة هيفاء السبيل لـ"اندبندنت عربية" أن ذلك يعود إلى كون الأسنان من أكثر أعضاء الجسم احتواءً على المعادن، إذ تحوي مينا السن نحو 96 في المئة من المعادن غير العضوية، مقابل نحو 70 في المئة فقط في العظام، مما يجعل الأسنان أكثر قدرة على مقاومة التحلل والحرارة والعوامل البيئية القاسية.

وتتميز الأسنان كذلك بتفاصيل فريدة يصعب تطابقها بين شخص وآخر، من الشكل والحجم والعدد وموقعها داخل الفك وطريقة تطابقها، وحتى التوائم المتطابقة تظهر غالباً اختلافات دقيقة في أسنانها.

ويمكن للأسنان أن تقدم دلالات مهمة حول عمر الإنسان، وعاداته الغذائية، ونمط حياته.

وفي حال كانت الضحية بلا أسنان، تشير السبيل إلى أن الطب الشرعي يلجأ إلى العظام المحيطة بالفم عبر تصويرها بالأشعة، لتحليل ملامح عظام الوجه والفكين وحجم الجيوب الأنفية وتضاريسها. أما أطقم الأسنان إن وجدت فقد توفر أدلة إضافية، مثل عمر الطقم والمواد المصنوع منها.

وتضيف "في بعض الدول الإسكندنافية يحمل طقم الأسنان الكامل رقماً تسلسلياً مرتبطاً ببيانات صاحبه، مما يسهل عملية التعرف عليه".

يعد طب الأسنان الشرعي أحد التخصصات الدقيقة في الكشف عن الأدلة المرتبطة بالجرائم من خلال تحليل منطقة الفم والأسنان، وتحديداً آثار "العض".

ويشير طبيب أسنان الأطفال والحاجات الخاصة أحمد الشريف إلى أن هذا التخصص ينقسم إلى ثلاث مناطق رئيسة، تبدأ بـالكدمات الفموية (Oral Traumatology)، وهي المعنية بتقييم الإصابات التي تطاول أنسجة المضغ، بما في ذلك الأسنان وما حولها من عظام الفك والعضلات والشفاه والأربطة واللسان، للتحقق من وجود إصابات أو نفيها.

أما المنطقة الثانية، وهي تفسير أو تحليل علامات العضة (Interpretation of Bite Marks) فتشكل محوراً أساساً في التحقيقات الجنائية، إذ تترك العضة على الجلد أثراً يمكن أن يكشف تفاصيل بالغة الأهمية. ففي كثير من الجرائم تستخدم الأسنان كسلاح مباشر، ويقوم الجاني بعض الضحية بقوة تاركاً بصمة واضحة.

ويضطلع طبيب الأسنان الشرعي بمهمة تحليل هذا الأثر، سواء ظهر على جسم المجني عليه أو الجاني، أو على أجسام في مسرح الجريمة مثل الفاكهة، مع مراعاة العقبات التي قد تعقد التحليل، كظهور أثر فك واحد فقط عند العض فوق الملابس، أو تشوه بصمة العضة نتيجة سحب الجلد أثناء الاعتداء. وغالباً ما ترتبط آثار العض بجرائم التحرش والاغتصاب والقتل والعنف ضد الأطفال، إضافة إلى حالات الدفاع عن النفس.

ويعد تحليل بصمة العضة دليلاً حاسماً قد يلعب دوراً محورياً في إثبات الجريمة، إذ يكشف نوع النزف تحت الجلد في موضع العضة، وهو ما يحدد ما إذا كانت الضحية حية أم ميتة وقت وقوع الاعتداء. وتعد هذه المعلومة مفصلية في تحديد وجود "سبق إصرار وترصد"، وهو عامل مؤثر في الإجراءات القضائية والعقوبات. وفي ختام عملية التحليل، يصدر الطبيب الشرعي تقريراً يحدد ما إذا كان الشخص المعني هو الجاني، أو ليس الجاني، أو من المحتمل أن يكون الجاني.

المنطقة الأساس الثالثة هي تحديد الهوية (Human Dental Identification)، والتي تُحدد فيها هوية الشخص من خلال بعض الملامح بين مجموعة كبيرة من الأشخاص. ويوضح الشريف أن لكل إنسان عضة وشكل أسنان يختلف من شخص إلى آخر، وأن وجود الحشوات أو أية كسور في الأسنان يميز بين شخص وآخر ويساعد في تحديد المشتبه فيهم، ومنها أخذ طبعات الأسنان للمشتبه فيهم ومقارنتها بالعضة الموجودة على جسم الضحية.

وبحسب الدكتورة هيفاء السبيل، فإن التخصص على المستوى المحلي داخل السعودية لا يعد تخصصاً مستقلاً، وإنما يدرج كمادة أو منهج دراسي ضمن طب الأسنان العام، بخلاف أوروبا وأميركا. وتنوه الاستشارية إلى أن طبيب الأسنان يمتلك المعرفة العامة التي تتعلق بالعمر الافتراضي بصورة تقريبية للشخص بناءً على فحص الأسنان، ويمكن للطبيب في حال وجود طبعات للأسنان سواء رقمية أو جبسية مقارنتها بطبعات الضحية لتأكيد الهوية في حال توافرها.

تشير المتخصصة إلى أن الطبيب يمكن أن يتنبأ بعمر الضحية بمجرد النظر للأسنان بدقة في الفئات العمرية الصغيرة حتى عمر 20 سنة، لوجود دلالات واضحة تتعلق باكتمال تكون الجذور وأضراس العقل. وفي الفئات العمرية الأكبر يمكن التنبؤ بالعمر بدلالات أخرى قد تكون أقل دقة، من خلال الفحص السريري لتآكل بعض التضاريس في سطح الأسنان وهيئة العظام وما إلى ذلك.

تُستخدم الأجهزة المجهرية لدراسة طبقات السن المختلفة، إذ يعطي عرضها وكمية المعادن المترسبة فيها معلومات عن العمر الفسيولوجي للإنسان. أما جنس الشخص فيُحدد من خلال تحليل حجم الأسنان والجذور وشكلها، إضافة إلى بعض التقنيات المتقدمة المعتمدة على تحليل البروتينات الموجودة في مينا السن.

وللأسنان دلالات واضحة على نمط الحياة ونوعية الطعام والعادات الغذائية لأصحابها، ويمكن تشخيص بعض الأمراض العضوية بالنظر إلى حال الأسنان، مثل حالات الارتجاع المريئي والأنوركسيا والبوليميا.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد الكوارث التي تخلف وفيات جماعية تصبح نسبة من الجثث بلا ملامح ويصعب التعرف إليها من ذويها. ويبقى في هذه الحال دليل واحد للوصول إلى هوية الجثة، وهو "الأدلة السنية". وبحسب بحث نشر على موقع "PMC" للأبحاث الطبية وعلوم الحياة عام 2018، فإن الأدلة السنية تعد إحدى أكثر الطرق موثوقية لتحديد الهوية في مثل هذه المواقف.

وتتطلب العملية عملاً جماعياً يضم خبراء من تخصصات مختلفة، ويكون دور طبيب الأسنان الشرعي فعالاً ضمن جميع مراحل عملية تحديد الهوية كعضو رئيس في فريق تحديد الضحايا. وقد يكون تدمير الجثث وتفتيتها وتشويهها جزءاً من سيناريوهات الكوارث مما يزيد من صعوبة التعرف إلى الضحايا.

شمل البحث تحليل 20 كارثة جماعية، منها 12 كارثة عرضية كتحطم الطائرات وحوادث القطارات، وخمس كوارث طبيعية وثلاث كوارث جنائية. وأشار البحث إلى أن العدد الأكبر من الضحايا مرتبط بتسونامي اليابان. وبلغ مجموع الضحايا في الكوارث التي شملها البحث 23654 ضحية، تُعرِّفَ على 20569 منهم، أي ما يعادل 86.96 في المئة.

أما في حال الجثث التي لا تمتلك أسناناً قبل الوفاة، فيمكن التعرف إليها بناءً على تشريح عظم الفك أو أطقم الأسنان. ويمكن أن تشكل التشوهات السنية مثل الأسنان المفقودة أو الزائدة أو وجود نتوءات إضافية أساساً مهماً في تحديد الهوية.

شكلت الأسنان دليلاً حاسماً في واحدة من أشهر القضايا الجنائية داخل الولايات المتحدة، حين هاجم السفاح تيد بندي عام 1978 إحدى طالبات "فلوريدا ستيت يونيفرسيتي" وترك على جسدها بصمة عضة واضحة. وعند اعتقاله، التقط أطباء الأسنان طبعات دقيقة لفكه، وكشفت صور الأشعة تطابقاً تاماً بين العضة وأسنانه، بما في ذلك المسافات الدقيقة بين القواطع وانحراف أحد الأنياب وانحناء الفك. وكانت هذه البصمة الدليل الأقوى في القضية واعتمدت عليها المحكمة بصورة أساس لإدانته، ليحكم عليه بالإعدام.

وضمن سياق مختلف تماماً، تحولت الأسنان إلى أداة إنقاذ إنساني بعد كارثة تسونامي عام 2004 في المحيط الهندي، حيث فقدت آلاف الجثث ملامحها بفعل التحلل، ولجأت الفرق الدولية إلى السجلات السنية وصور الأشعة وأطقم الأسنان لتحديد هوية الضحايا.

وأسهمت هذه الأدلة في التعرف إلى أكثر من 75 في المئة من الضحايا، في واحدة من أضخم عمليات تحديد الهوية عبر الأسنان في التاريخ.