إيران

كادت الحرب تشتعل بين طهران وواشنطن بعد اغتيال الفريق قاسم سليماني. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أراد من الاغتيال أن يكون جزءاً من حربه غير المعلنة على إيران، لكن ما هي النتائج؟

اغتيال سليماني.. كيف جاءت أهدافه منكوثة؟

"كان يسود اعتقاد بأنه لا يُهزم"، قال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بعد نحو أسبوعين من متابعته بشكل مباشر تنفيذ عملية اغتيال قائد "قوة القدس" الجنرال قاسم سليماني، في الـ 3 من كانون الثاني/يناير 2020، معتبراً أنّه "كان يستحق هذه الضربة القاسية"، فالجنرال الذي انخرط في العمل العسكري منذ أن كان في الـ23 من عمره "أسقط آلاف الأميركيين بين قتيل وجريح، على مدى فترة طويلة من الوقت".

مبررات ترامب لاغتيال قائد عسكري لـ "دولة عدوة" في أرض بلد أجنبي خضعت طوال العامين الماضيين للتشكيك والنقد على المستوى القانوني والحقوقي (المحققة الأممية أنييس كالامار وصفت اغتيال سليماني بأنّه جريمة قتل تعسفي)، لكن الأهم، ما دمنا نتكلم هنا عن أميركا التي تتخذ "الحرب العادلة" و"الاغتيالات المشروعة" في تاريخها شكل الإبادة، هو أنّ التشكيك طال النتائج العملية المدعاة نفسها، أي "حماية الأميركيين" أو الحد من نفوذ إيران وحلفائها "المزعزع للاستقرار". 

تشير السردية السائدة إلى أنّ اغتيال سليماني أتى بعد سلسلة عمليات حدثت نهاية العام 2019، بما في ذلك إطلاق إيران - بحسب الادعاء الأميركي - صواريخ "كروز" ومسيّرات على معملين تابعين لشركة "أرامكو" السعودية في الـ 14 من أيلول/سبتمبر، وبدء "حرب الظل" البحرية بين إيران و"إسرائيل"، وليس انتهاءً بالحدث الأبرز، وهو اقتحام السفارة الأميركية في بغداد في نهاية كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته، رداً على تنفيذ الطائرات الأميركية غارات على مواقع للحشد الشعبي العراقي عند الحدود مع سوريا.

تدّعي واشنطن أنّ اغتيال سليماني وضع حداً لزيارته المستعجلة إلى العراق لإدارة التصعيد العسكري ضدّ قواتها. قد يكون ادعاؤها مصيباً، فسليماني عمل، بوصفه قائداً لـ"قوة القدس" المسؤولة عن النشاط العسكري لحرس الثورة ما وراء الحدود الإيرانية، على تدريب وتسليح فصائل المقاومة العراقية التي قاتلت الاحتلال الأميركي منذ العام 2003، وكان على رأس إعداد قوات "الحشد الشعبي" لقتال تنظيم "داعش" منذ العام 2014، وبالتالي إنّ دوره اللصيق بتنظيمات المقاومة العراقية يؤهله لأن يكون من جديد المحرك في وجه الجيش الأميركي.

لكنّ اغتيال سليماني لا يبدو حدثياً وبهذه البساطة، كما تظهر الرواية الأميركية، فقد كان يعني "إعادة تشكيل دراماتيكية للشرق الأوسط الذي عرفناه خلال 50 عاماً"، وفق قول أحد كبار المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية المطلعين على العملية. بمعنى آخر، كان يفترض أن يكون اغتيال سليماني ضربة تفقد إيران واحداً من أعظم جنرالاتها، وتترك مرشدها في طهران محاصراً بـ"ضغوط قصوى"، وأمام فرصة واحدة ممكنة: الجلوس إلى الطاولة بشروط أميركية.

التقرير الذي كتبه كل من جاك مورفي وذاك دورفمان لمصلحة موقع "ياهو نيوز"، في أيار/مايو الماضي، يؤيد الرأي القائل إنّ التخطيط لاغتيال سليماني جرى قبل الأحداث الصاخبة في نهاية العام 2019، إذ يشير الكاتبان إلى أنّ مباحثة مسألة اغتياله بدأت في البيت الأبيض خلال صيف 2018، بالتزامن مع إعلان إدارة ترمب انسحابها رسمياً من الاتفاق النووي الإيراني ومضاعفة الضغوط والعقوبات على طهران، بهدف نزع اتفاق أفضل منها.

احتاج ترامب في العام الأخير من حكمه إلى إنجاز دولي يوحّد الأميركيين، ويأتي به رئيساً لولاية أخرى. هذا ما نجح مع جورج بوش الأب خلال حرب الخليج الثانية في العام 1991، ومع ابنه إبان حربه على "الإرهاب" بعد هجمات 11 سبتمبر، ونجح أيضاً مع سلفه باراك أوباما الذي ارتفعت أسهمه بعد اشتراك طائرات بلاده العسكرية في إنهاء حكم معمر القذافي في ليبيا العام 2011. كانت وعوده تقضي بجلب إيران إلى طاولة المفاوضات بعد إلغاء "الاتفاق السيّئ" الذي أبرمه أوباما مع طهران في العام 2015، لكن هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح، بسبب رفض إيران الخضوع للابتزاز، ولذلك كان عليه أن يتحرك خطوة إضافية باتجاه التصعيد.

شكّل اغتيال سليماني ضربة موجعة لإيران وحلفائها، فسليماني كان قبل سنوات من استشهاده ضابط التنسيق بين حركات المقاومة وإيران ورمزاً عسكرياً وشعبياً يشكل حراكه ونشاطه الممتد من فلسطين إلى لبنان فسوريا واليمن بؤرة الجهود المنظمة لإدارة الصراع ضد واشنطن وحلفائها في الشرق الأوسط. وشغل بشخصه مهمات تفوق شروط الحرفة العسكرية التي كان يتقنها، ما أهّله لأن يكون "رابطاً بصورة ممتازة بين الساحتين العسكرية والدبلوماسية"، وفق توصيف خليفته العميد إسماعيل قاآني.

ولكن، بعد عامين على اغتيال سليماني، يظهر جلياً قدرة إيران وحلفائها على امتصاص آثار هذه الضربة، واستئناف ما توقف بشهادته. وخلال هذه الفترة، يمكن ملاحظة نجاح إيران في حماية برنامجها النووي من الهجمات الأمنية والسيبرانية الإسرائيلية التي طالتها، بل وتمكنها من رفع نسبة تخصيب اليورانيوم حتى 60% باستخدام أجهزة طرد محلية الصنع أكثر تطوراً، وهو ما عزّز موقعها في المفاوضات النووية التي أبدت إدارة الرئيس جو بايدن استعدادها لاستئنافها قبل فوزها بالرئاسة حتى، في إقرار غير معلن بفشل خطة ترامب الرامية إلى تطويع إيران. 

كما خرجت إيران، خلال هذين العامين، بضربات جيدة في معركتها البحرية مع "إسرائيل"، والتي تهدف إلى تمكين الحصار على اقتصادها، وتمكنت من تعزيز نموها الاقتصادي هذا العام، بعد 3 أعوام من الانكماش، بفعل تأقلم اقتصادها أكثر فأكثر مع العقوبات.

أما في الجانب العراقي، فيمكن القول إنّ اغتيال سليماني والمهندس سرّع انسحاب القوات الأميركية، من خلال المناخ الشعبي المعارض للاحتلال الذي أفرزه اغتيالهما، والتشريع الذي أقرّه البرلمان العراقي، والداعي إلى العمل على إنهاء أي وجود للقوات الأجنبية في الأراضي العراقية، وهذا ما ظهرت مفاعيله الشهر الماضي، مع إعلان القوات المسلحة العراقية إنهاء المهمات القتالية لقوات "التحالف الدولي" في البلاد. 

وفي فلسطين التي كانت الهمّ الأكبر للشهيد سليماني، والتي نالت فصائلها المقاومة قسطاً كبيراً من دعمه وتوجيهه، لا تُظهر معركة "سيف القدس"العام الفائت قدرة الفصائل الفلسطينية على تطوير ضرباتها النارية وتعزيز استجابتها لتطور التقنية العسكرية الإسرائيلية فحسب، بل أيضاً إدارة المعركة بشكل متناسق ومشترك، من خلال تنسيق "الغرفة المشتركة" طوال أمد المعركة وما بعدها أيضاً، كما ظهرت في خضمّها وفي ما بعدها متانة التنسيق بين الحراك الشعبي في الضفة الغربية والقدس والحركة الأسيرة في السجون وتنظيمات المقاومة في غزة.

كما يمكن ملاحظة تقدّم الحلفاء في جبهات عديدة أخرى؛ ففي سوريا تواصل التقدّم الميداني للجيش السوري في دير الزور ودرعا والرقة، مؤمناً بذلك السيطرة على معظم أراضي البلاد، فيما عكس إجراء الانتخابات الرئاسية بسلاسة المزيد من الاستقرار الذي بدأ يسهم في انفتاح دول العربية على إعادة استئناف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع سوريا. انقلاب المعادلة هذا شكّل تهديداً متزايداً لـ"إسرائيل" التي باتت متخوّفة من اقتراب حرس الثورة الإيرانية من حدودها أكثر من أي وقت مضى، ما يهدّد أمن الجبهة الجنوبية في حال اندلاع حرب إقليمية. 

كذلك واصل حزب الله في لبنان تطوير قوّته الصاروخية وامتلك المزيد من الصواريخ البالستية الدقيقة التي توعّدت "إسرائيل" باستهدافها وبمنعه من حيازتها، إذ ترى فيها "تهديداً وجودياً"، فيما يشير محللون عسكريون إسرائيليون إلى أنّ حزب الله بات قادراً على ضرب أي نقطة في الأراضي المحتلة، بما في ذلك مبنى الأركان العامة في "تل أبيب"، كما واصل الحزب تطوير منظوماته العسكرية الأخرى، "ولديه اليوم طيف واسع من المسيّرات الصغيرة والحوامات من الأنواع كافة، بما في ذلك تلك التي تحمل مواد متفجّرة لمئات الكيلومترات"، وفق ما يقول محلل الشؤون العسكرية الإسرائيلي يوآف ليمور.

عند المرور على المسيّرات، ينبغي تذكّر "أنصار الله" في اليمن، والتي حظيت بدعم من إيران طوال سنوات. فقد نجحت الحركة في استخدام هذا السلاح بحرفية في المعركة ضد التحالف السعودي. وخلال هذين العامين، سجلت الكثير من الاختراقات في المجال الجوي السعودي وضربت منشآت حيوية وعسكرية، بينها مطارات ومحطات نفطية، فيما تتابع تقدم القوات المسلحة الميداني في الحديدة ومأرب والجوف وأبين وشبوة، دافعين بالتحالف السعودي إلى المزيد من التضعضع، الذي بلغ ذروته في الخلاف السعودي الإماراتي والانكفاء الأميركي عن المشهد المباشر للحرب.  

كان صعود سليماني من الظل إلى الواجهة الإقليمية لمحور المقاومة بمنزلة علامة على صعود إيران ومشروع المقاومة. وقد مثّل بشخصه العابر للحدود دلالة على أنّ إيران وحلفاءها لن يعودوا بيدقاً بأيدي القوى الدولية. كان اغتياله مهماً، لأنّ "اغتيال" إيران كان مهماً، لكن ماذا حدث منذ اغتياله؟ الأكيد أنّ إيران لم تسلّم بعد في لعبة عضّ الأصابع. 

أعلن في شمرا