على عكس ما هو متوقع سارت أحداث الأزمة الصينية التايوانية عام 2022، فلماذا لم يحصل التصعيد العسكري؟

عكس التوقعات 2022.. لماذا لم يحصل الصدام الصيني التايواني؟

أحداث متشابكة ومعقّدة حملها عام 2022 على صعيد الأزمة الصينية_التايوانية، فبداية العام الهادئة نسبياً لم تكن كمنتصفه العاصف ونهايته الباردة نوعاً ما. من حرب التصريحات إلى المناورات العسكرية والعقوبات الاقتصادية امتدت أحداث العام، وصولاً إلى تحذير البعض من حرب مقبلة، وخصوصاً بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بيلوسي العاصمة تايبيه، رغم التهديدات الصينية من العواقب المحتملة.

عصر الثلاثاء في 2 أغسطس 2022، هبطت طائرة رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بيلوسي في العاصمة التايوانية تايبيه، برفقتها 5 من أعضاء الحزب الديمقراطي، في زيارة أشعلت فتيل الأزمة بين الصين وتايوان التي تشهد تاريخاً من المدّ والجزر.

بيلوسي الّتي رمت كرة من النار في العلاقة الصينية التايوانية بزيارتها الاستفزازية، وفق ما ترى الصين، جاءت لدعم الانفصال، وليس كما ادّعت رئيسة البرلمان الأميركي حينها، أنّها "لدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان" في تايبيه.

زيارة رفيعة المستوى لثالث أهمّ منصب في الولايات المتحدة عدّتها بكين تناقضاً مع مبدأ سياستها "الصين واحدة"، وخصوصاً أنّ للولايات المتحدة باعاً طويلاً في المراوحة في التعامل مع الملف التايواني، ففيما لم تعترف حتى الآن بتايوان "كدولة"، تواصل دعمها عسكرياً ودعم الانفصاليين المعادين للحزب الشيوعي الحاكم في جمهورية الصين الشعبيّة.

الموقف الصيني من زيارة بيلوسي لتايوان اتّسم بتشدد الخطاب السياسي قبل بدء الزيارة وبعدها. تزامن ذلك مع تصعيد عسكري بعث إشارات إلى حرب مقبلة، حذّر كثيرون من أن تكون سيناريو مكرّراً للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، رغم تأكيد بكين أن القضيتين مختلفتان.

وقبيل 3 أيام من الزيارة، حذّر الرئيس الصيني شي جين بينغ نظيره الأميركي خلال مكالمة هاتفية من "أنّ الذين يلعبون بالنار يحرقون أنفسهم في نهاية المطاف"، ووصفت بكين الزيارة "بالاستفزازية"، وأكّد المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية ووتسيان بعد وصول بيلوسي إلى تايبيه أنّ "جيش التحرير الشعبي الصيني في حالة تأهب قصوى، وسيشن عمليات عسكرية محددة الهدف للرد على ذلك".

الرئيس الأميركي جو بايدن من جهته تعهد الدفاع عن تايوان في حال تعرضها لما سماه "غزواً صينياً"، في تصريح عُدّ الأوضح للإدارة الأميركية التي اتبعت لسنوات سياسية "الغموض الإستراتيجي" في التعامل مع الملف التايواني.

وامتدّت حرب التصريحات هذه إلى الحشد العسكري. في الجانب الصيني، أعلنت بكين تنفيذ تدريبات عسكرية "بالذخيرة الحية" قبالة سواحل جزيرة بينغتان في إقليم فوجيان شرق الصين، وهي تبعد نحو 120 كم من السواحل التايوانية، في مناورات عدّت الأكبر لبكين منذ أزمة مضيق تايوان عام 1995، كما عبرت 21 مقاتلة صينية منطقة "تمييز الهوية" لأغراض الدفاع الجوي لتايوان (أديز)، وهي مختلفة عن المجال الجوي الإقليمي لتايوان، وتشمل منطقة أكبر منها.

في المقابل، أعلن الأسطول الأميركي السابع قيام حاملة الطائرات "يو إس إس رونالد ريغان" بالتوجه إلى بحر الفلبين جنوب تايوان، وأرسلت واشنطن أسلحة ووحدات تدريب عسكرية خاصة ووفوداً من المسؤولين السابقين لدعم تايبيه.

ووسط حالة من الاستنفار، أعلنت تايوان "التأهب لحالة حرب"، فدوّت صفارات الإنذار في الجزيرة، وصدرت أوامر ببقاء السكان في منازلهم، بالتزامن مع فتح الملاجئ وإجراء تدريبات جوّية مكثّفة في العاصمة تايبيه تحسباً لهجوم صيني محتمل.

أمّا على الجانب الاقتصادي، فقد فرضت الصين حزمة من العقوبات على تايوان تمثّلت بإيقاف صادرات الرمال الطبيعية إليها التي تحتاجها للموصلات الإلكترونية، ومقاطعة "المنتجات التايوانية" الغذائية، فضلاً عن وقف استيراد بعض الأسماك والفواكه من الجزيرة.

الردّ الصيني لم يقتصر على تايوان، بل شمل الولايات المتحدة الأميركية، إذ علّقت بكين تعاونها مع واشنطن في مجالات أساسية، من بينها التغيّر المناخي والدفاع، وكذلك التعاون في منع الجريمة عبر الحدود وإعادة المهاجرين غير النظاميين، كما أعلنت عن عقوبات طالت بيلوسي وعائلتها المباشرة، في قرار وصفته الأخيرة بأنه "غير مسؤول".

وأمام الفعل ورد الفعل المتبادل بين الولايات المتحدة وتايوان من جهة، والصين من جهة أخرى، وُضع العالم بأسره في حالة استنفار لما ستؤول إليه الأمور.

مع حصل كان عكس التوقعات، فالحرب التي كادت تقرع طبولها في أيّ لحظة، تحوّلت إلى تركيز صيني على دعم خاصرتها البحرية جنوباً (بحر الصين الجنوبي)، وهو ما يعني ضرب المخطط الأميركي في توريط الصين بحرب استنزافية، فقد عملت بكين على تعزيز حضورها العسكري في بحر الصين الجنوبي، وعلى استحداث منشآت عسكرية وبنى تحتية للصواريخ والرادارات وطائرات الهيلوكبتر في البحر، وعززت وجودها العسكري في المنطقة.

ونجحت بكين قبيل شهر من نهاية هذا العام في إرسال رسالة تحذيرية إلى الولايات المتحدة الأميركية، بعدما تمكن الجيش الصيني من إبعاد طراد أميركي مسلّح بصواريخ موجّهة دخل بشكل غير قانوني إلى المياه قرب جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي.

ويعدّ بحر الصين الجنوبي أحد أبرز مقومات القوّة في الفكر الإستراتيجي الصيني. وانطلاقاً من هذا المعيار، فهو يشكّل نقطة ارتكاز الصراع والمجابهة بينها وبين الولايات المتحدة، وخصوصاً أنّه يعتبر من أكبر البحار في العالم، إذ يطلّ على مختلف الدول التي ترغب واشنطن في حشدها إلى صفّها، كالفلبين وسنغافورة وتايوان وغيرها في سياق صراعها المحتدّ على النفوذ في ذلك البحر، والذي يشكّل ممر ملاحة بالغ الأهمية، فضلاً عمّا يتمتع به من ثروات وموارد طبيعية وموقع جيوسياسي محوري.

وبناء عليه، فإنّ ما يحدث من احتكاكات في بحر الصين الجنوبي هو ترجمة للإستراتيجية الأميركية والأطلسية التي تعتبر الصين أول وأخطر منافس، وخصوصاً في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فواشنطن تحرص على تعزيز حضورها العسكري والسياسي في هذا الجزء من العالم، كي لا يقع في يد الصين بشكل كامل، وبما ينسجم مع إستراتيجة الدفاع الوطني الأميركي 2022، التي لن يكون آخرها التحالف الأمني والاستراتيجي "أوكوس" في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، الذي يضمّ كلاً من أميركا وبريطانيا وأستراليا.

تنبع الإجابة عن هذا التساؤل من رؤية الدولتين لإدارة الأزمات في العالم، ففي مقابل السياسية الأميركية القائمة على خلق بؤر الصراع في العالم، والتي يتغذى عليها "المعسكر الصناعي العسكري"، كما يحصل اليوم في أوكرانيا، تبرز الرؤية الصينية القائمة على التعاون والتكامل في "المشروع التنموي العالمي" الذي يقوم على "طريق الحرير الجديد".

وانطلاقاً من المبدأ الصيني القائم على الحكمة، أدركت بكين الفخ الأميركي الهادف إلى توريطها عسكرياً مع تايوان من جهة، ومحاولات الضغط عليها من أجل تراجعها عن موقفها بدعم روسيا في أوكرانيا من جهة أخرى.

والمتتبع لسياق الأحداث التي سبقت زيارة بيلوسي وتلتها، يلحظ جيداً أنّ الصين لم تكتفِ بالتهديد، بل ترجمت ذلك عملياً في مناورات عسكرية أجرتها في منطقة تعدّ إستراتيجية بدرجة كبيرة للإمدادات الوافدة إلى الجزيرة، في رسالة أرادتها واضحة مفادها أنّ بمقدورها منع دخول أي سفينة أو طائرة، عسكرية كانت أم مدنية، وخروجها من الجزيرة، وما قد يحمله ذلك من تأثير في النقل البحري والممرات التجارية وسلاسل الإمداد العالمية، وهو ما أدركتها تايوان وأميركا جيدا.ً وبناء عليه، أبقت الصين أعمالها العسكرية وعقوباتها الاقتصادية دون مستوى حرب.

وبالنظر إلى الإستراتيجية الصينية المتبعة منذ سنوات تجاه تايوان، يلحظ أنّها تتسم بالمرونة الكبيرة، فمن يضحك في النهاية هو الرابح، لأنّ استخدام القوّة، ولا سيّما في ظل الظروف غير المناسبة، قد يثير زعزعة الأمن في المنطقة، ويمنح أميركا فرصة استخدام هذا الأمر في مصلحتها لإثبات فرضية التهديد الصيني.

ولعلّ قول مؤسس جمهورية الصين الشعبية ماو سي تونغ لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي عام 1973، حينما بدأت علاقات الصين بالولايات المتحدة تخرج من مرحلة الجمود: "تستطيع الصين أن تستمر من دون تايوان في الوقت الحالي، ولتأتِ تايوان، ولو بعد مئة عام"، يؤكد ذلك.

أعلن في شمرا