العراق

كان حديث السياسية والإعلام يدور حول فكرة "ماذا تريد أميركا من العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين؟"، وبقيت فكرة "ما الذي ستفعله أميركا في العراق؟" ثانوية، لا بل تُعرض في سياق الإجابة عن الفكرة الأولى.

وضعت أميركا استراتيجيتها مطلع الألفية الحالية ضمن حدود ضرب مراكز القوى المواجِهة لها

"إيران تعتبر أمن سوريا من أمنها، ونحن نعتبر أن قدراتنا الدفاعية تابعة لسوريا" (وزير الدفاع الإيراني مصطفى نجّار - حزيران/يونيو 2006).

في الأول من حزيران/يونيو 2002، قدم الرئيس الأميركي جورج بوش "العقيدة العسكرية الجديدة" (عقيدة الحرب الاستباقية) أمام حفل تخرج الدفعة 908 من ضباط أكاديمية "Point West" العسكرية الأميركية، شرح خلالها "المخاطر" التي ينبغي للولايات المتحدة مواجهتها، والتي تأتي مما وصفها بـ"مجموعات إرهابية دولية" ومن "دول تتساهل معها وتأويها"، ومن "هؤلاء الذين يملكون أسلحة الدمار الشامل أو الذين يتزودون بها" أو "الذين يتجهزون لإنتاجها".

وضعت الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيتها مطلع الألفية الحالية ضمن حدود ضرب مراكز القوى المواجِهة لها، تحت عناوين فضفاضة لا تلزمها بقيود سياسية، كـ"الحرب على الإرهاب". وفي العام 2003، جاء الغزو الأميركي ضد العراق ليطرح تساؤلات وفرضيات عديدة حول الخطوة التالية، باعتبار أن "بغداد 2003" لم تكن تشكل أي خطرٍ على الولايات المتحدة في نفوذها الإقليمي، وبطبيعة الحال في مجال نفوذها الدولي، وهذا ما كانت تدركه القوى الدولية جيداً من خصوم لواشنطن وحلفائها.

كان حديث السياسة والإعلام يدور حينها حول فكرة "ماذا تريد أميركا من العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين؟"، وبقيت فكرة "ما الذي ستفعله أميركا في العراق؟" ثانوية، لا بل تُعرض في سياق الإجابة عن الفكرة الأولى، باعتبار أن المزاعم الأميركية حول مسألة "السلاح الكيميائي" و"تورط" صدام حسين في دعم "تنظيم القاعدة" كانت تعبّر عن قوة أميركا في فرض السردية التي تريدها. وهنا، كان المطلوب التعامل مع السردية ومع نتائجها، لا مع البحث في كونها حقيقة أو ذريعة من دون وقائع ملموسة.

من الخطأ الاعتقاد أن القوى الدولية صدّقت مزاعم "الكيميائي العراقي" أو "دعم القاعدة"، وفي مراحل لاحقة، "سقط القناع"، وظهرت أميركا على حقيقتها، في حين أن حقيقة الذرائع الأميركية كانت واضحة منذ البداية، لكن في الوقت الذي كانت بعض القوى الدولية والإقلمية غير قادرة على مواجهة تلك السردية ومنعها من التحول إلى فعل، في ذروة القوة الأميركية وهيمنة القطب الأوحد، تجاوزت هذا الأمر، وبدأت بالاستعداد لمواجهة النتائج المترتبة عليه.

المخاطر التي قفزت فوقها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن من الناحيتين الأمنية والعسكرية، في شن حربٍ جديدة على العراق بعد عامين فقط من الحرب على أفغانستان (تقارير عديدة تحدثت عن تأثير الحرب في العراق على التواجد العسكري الأميركي في أفغانستان وصعود حركة طالبان مجدداً)، تستدعي التفكير في كون العراق لم يكن مجرّد مرحلة من مراحل "حروب ما بعد 11 سبتمبر"، بل هو مرتكز لاستراتيجية أميركية لا تتعلق بالإقليم فحسب، بل بالنظام الدولي ككل أيضاً، الذي كانت تحاول الولايات المتحدة في حينها ترسيخ نفسها سيدة عليه، استناداً إلى مشروع جديد في "الشرق الأوسط".

في تلك المنطقة، كانت تحصل تحولات خطيرة بالنسبة إلى أميركا تتعلق بظهور حركات التحرر وبنجاح تلك الحركات في دفع المشروع الأميركي خطوات إلى الوراء: في لبنان، من خلال الانسحاب الإسرائيلي دون شروط، وتحت ضربات المقاومة. وفي فلسطين المحتلة، الانتفاضة التي اندلعت، والتي أظهرت أساليب جديدة في المواجهة. وفي هذا كله هناك مشترك: طهران ودمشق، كقوى إقليمية داعمة للمقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة ومناطق أخرى، وتؤدي دوراً مركزياً في مواجهة المشروع الأميركي.

وعليه، فإنّ "الشرق الأوسط الجديد" الخالي من "المتاعب والعوائق" بالنسبة إلى الأميركي لن يمر من دون ضرب الداعم الأساسي للتحولات الحاصلة، فكان العراق، ومن خلفية جيوسياسية المنطقة الفاصلة جغرافياً بين سوريا وإيران، هو نقطة الانطلاق لضرب هذا "المشروع". وفي الحديث عن كون العراق بحد ذاته مصدر خطر أو عن الثروة النفطية التي يطمح الأميركي للاستيلاء عليها، فإن الأمر هو جزء من الاستراتيجية الأشمل التي تتعلق بنظرة الولايات المتحدة إلى مستقبل المنطقة، في حال بقاء القوى المواجِهة ضمن مسار الصعود.

الباحث الأميركي في مؤسسة "بروكينغز" جايمس ستاينبرغ نشر في العام 2004، بعد حوالى عام من غزو العراق، دراسة قارب فيها تحرك واشنطن ضد دمشق حينها في إطار "استراتيجية الأمن القومي الأميركي" التي وضعتها إدارة بوش بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وذلك من خلال إشارته إلى "بيانات" عديدة للرئيس بوش ومستشاريه الكبار، توضح أنّ "الحرب ضد العراق ينبغي اعتبارها مجرد جزء من استراتيجية أوسع".

ما يجب إعادته إلى الواجهة مع كل سردٍ لأسباب الغزو الأميركي للعراق ونتائجه، هو موقف دمشق وطهران من هذا الغزو. العاصمتان اللتان كانتا على عداء مع النظام في العراق وقفتا ضد الغزو، والسبب ليس مصالح فئوية تتعلق بأنظمة أو حكومات، بل مصالح استراتيجية تتعلق في:

أولاً، أن العراق سيبقى، وبمعزل عن النظام الحاكم، جزءاً من الأمن الإقليمي الذي يجب مقاربته ضمن سياق مواجهة الهيمنة الأميركية، لا أن يتحول إلى الفوضى التي تعطي تلك الهيمنة أدوات للاستمرار في سياساتها.

ثانياً، أنَّ المشروع الأميركي في العراق هو مقدمة لمشروع خارجه. لذا، إن موقف "أعداء" صدام في دمشق وطهران من "عدوه" في واشنطن، كان ينظر إلى الأمر من زاوية ماذا تريد أميركا في العراق ومنه؟ وبحد ذاتها، هي نظرة ضمن مسار ما ذكرناه آنفاً، حول أنَّ عدم القدرة على مواجهة السردية الأميركية ومنعها من التحول إلى فعل، لا يعني بالضرورة عدم مواجهة نتائجها في مرحلة لاحقة! وهذا ما عبّر نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في تشرين الثاني/نوفمبر 2002، بقوله إن بلاده "تدافع عن العراق، وهو بلد عربي ومصير كل العرب مرتبطون بمصيرها".

والأهم ما أضافه خدّام بأن "العراق منطقة خلفية استراتيجية لسوريا في صراعها مع إسرائيل". وبعيداً عن الموقف الأخلاقي، فإن فهم طبيعة الغزو الأميركي للعراق ومآربه ينفي ما قيل عن موافقة أو استفادة أو حتى مساعدة إيرانية ضمنية لأميركا من إسقاط نظام صدام حسين، باعتبار أن الدول لا تنظر إلى مصالحها ضمن إطار ما حصل في الماضي وينتهي الأمر هنا، بل ماذا سيحصل في المستقبل، وماذا سيترتب على الحدث من نتائج تطالها، والأمر ذاته ينطبق على سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن علاقتها مع العراق شهدت تحسناً في السنوات الأخيرة التي سبقت العدوان.

وفي هذا السياق، فإن سوريا استشعرت باكراً المخطط الأميركي. الرئيس السوري بشار الأسد، وفي مقابلة مع جريدة "السفير" اللبنانية في 27 آذار/مارس 2003، حذّر من أن سوريا قد تصبح "الهدف" القادم للولايات المتحدة، قائلاً: "بالنظر إلى التحركات الأميركية، فإن سوريا لا تنوي الجلوس مكتوفة الأيدي".

إلى جانب الموقف السوري، كانت إيران تحذّر هي الأخرى، وعلى لسان المرشد السيد علي خامنئي من "ضغوط سياسية وثقافية ونفسية كبيرة على إيران في المستقبل كنتيجة لهذه الحرب"، ولا سيما أن الغزو الأميركي للعراق (غرب إيران) سبقه غزو مماثل في أفغانستان (شرق إيران). أمّا رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني حينها محسن مير دامادي، فقال أيضاً إن "سوريا ستكون عرضة للضغوط الأميركية القوية في المستقبل".

في الفترة التي تلت غزو العراق بين العامين 2004 و2006، وقعت طهران ودمشق عدة معاهدات دفاعية مشتركة. نائب رئيس المجلس الأميركي للسياسة الخارجية إيلان بيرمان قال تعليقاً على تلك المعاهدات: "لدى سوريا وإيران هدف مشترك، وهو ألا يكونا العراق القادم"، فيما لم تخفِ إيران وسوريا أن تلك المعاهدات هدفها مواجهة "إسرائيل" والسياسيات الأميركية في المنطقة.

بعد شهر فقط من سقوط نظام صدام حسين، بدأ مسؤولو إدارة بوش بترجمة استراتيجيتهم لـ"مرحلة ما بعد احتلال العراق" عملياً. وما يثبت حقيقة كون العراق نقطة ارتكاز لمشروع أميركي يطال المنطقة، هو تحرك الولايات المتحدة سريعاً كاشفةً عن برنامجها السياسي والعسكري في ضوء احتلالها للعراق، والذي كان "أمن إسرائيل" عنوانه الأبرز، كما صرحت مستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليزا رايس التي أعلنت في أيار/مايو 2003 أن جولة وزير الخارجية الأميركي كولن باول في الشرق الأوسط التي بدأها من سوريا، "هي بداية تدخل أميركي عميق لبناء شرق أوسط جديد محوره إسرائيل".

وصل باول إلى دمشق في 2 أيار/مايو 2003، منتشياً بالنتائج السريعة للغزو، مع شروطٍ تحمل في طياتها تهديداً أميركياً صريحاً لسوريا. الشروط بدأت من مطالبة دمشق بفك ارتباطها السياسي والأمني والعسكري مع طهران، والتوقف عن دعم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، وطرد قادة "حماس" والجهاد" وغيرهم من دمشق، وصولاً إلى عدم التدخل في الشأن العراقي، والدخول في "عملية سلام" ضمن مسار أميركي مع "إسرائيل". باول ذاته كان استبق زيارته إلى دمشق بتصريح من العاصمة الإسبانية مدريد قال فيه إن "الشرق الأوسط قد تغير بعد حرب العراق، وعلى سوريا أن تغير سياستها".

أمّا مع إيران، فإن الضغوط بدأت من باب البرنامج النووي، إذ أعلن جورج بوش أن "جميع الخيارات مفتوحة، بما فيها العسكرية"، في الوقت الذي كانت ترتفع أصوات أميركية من فريق "المحافظين الجدد" تطالب بتغيير النظام في إيران، ضمن عقيدة "الحرب الاستباقية"، بزعم أنه يشكل خطراً مستقبلياً، بالتوازي مع تقارير تحدثت عن بدء قوات أميركية خاصة "تحديد مواقع الأسلحة الكيماوية والنووية الإيرانية" المزعومة لتكون أهدافاً لعملية عسكرية محتملة.

توالت التهديدات ضد إيران في الأشهر الأولى بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، إذ أعلن جون بولتون وكيل وزارة الخارجية لشؤون مراقبة التسلّح والأمن الدولي في شهادته أمام لجنة في الكونغرس في 4 حزيران/يونيو 2003، أن إيران تطوّر "منجماً لليورانيوم، ومرفقاً لتحويل اليورانيوم، ومرفقاً هائلاً لتخصيب اليورانيوم مخصصاً لتركيب عشرات الآلاف من أجهزة الطرد المركزي فيه، ومعملاً لإنتاج المياه الثقيلة".

وقال بولتون إنّ مثل "هذه المرافق قادرة على دعم إنتاج اليورانيوم والبلوتونيوم المُخصّب بدرجة عالية لإنتاج الأسلحة النووية". أمّا رئيس أركان الجيوش الأميركية ريتشارد مايرز قال في 25 أيار/مايو 2003 إن "مسألة إيران واضحة.. علينا القضاء على جميع ملاذات الإرهابيين وإيران تؤوي بالطبع عناصر من القاعدة". وعليه، فإن الضغوط خلال الأشهر الأولى من غزو العراق، أخذت مسارين ضد إيران، يتصلان بعقيدة جورج بوش في "الحرب الاستباقية"، هما: "أسلحة الدمار الشامل" و"إيواء إرهابيين".

الولايات المتحدة التي كانت تسعى، ومن خلال عقيدة "الحرب الاستباقية"، إلى استثمار سيطرتها العسكرية على الأراضي العراقية وطرح "خارطة طريق" جديدة محورها طهران ودمشق، واجهت رفضاً سورياً حاسماً للشروط التي حملها كولن باول، كما واجهت رفضاً إيرانياً أكثر صرامة للتخلي عن البرنامج النووي، ودعم حركات المقاومة، أو الاستسلام للتهديد بالتدخل العسكري.

بما تمثلان من قوة داعمة لمشروع مقاومة الهيمنة الأميركية في المنطقة، فإن الموقفين السوري والإيراني كانا الامتحان الأول لتموضع "العراق ما بعد الاحتلال" في الاستراتيجية الأميركية لـ"الشرق الأوسط الجديد"، لتبدأ بعد ذلك مرحلة مختلفة عما تريده واشنطن، وهي مرحلة مواجهة النتائج المترتبة على الاحتلال الأميركي والتعامل معها.

واجهت الاستراتيجية الأميركية في تلك المرحلة مشاكل وعراقيل عديدة داخل العراق نفسه، أدت إلى تغيرات إقليمية، ليس فقط في المشهد العراقي الداخلي.

أعلن في شمرا