طبيب الأسرة في لبنان... حاجة أم رفاهية؟
بغياب إرشاد الدولة، بدأ بعض المستشفيات الخاصة في لبنان يوجه المرضى أولاً لدى طبيب الأسرة للحد من هدر المال والوقت والجهد. ما أهمية هذه الخطوة؟
في مختلف دول العالم، يعتبر طبيب الأسرة أو طبيب الصحة العامة، الملجأ الأول لكل مريض لدى مواجهته مشكلة صحية، وفي مختلف مراحل حياته. وكأن مجموعة من الاختصاصات تجتمع في طبيب واحد يتميز بمقاربته الشاملة وبمتابعته المريض من الألف إلى الياء، فيوفر عليه الجهد والوقت، ويخفف من التكاليف الباهظة لفحوص ومعاينات لا حاجة لها. في الوقت نفسه بالاعتماد عليه، يمكن للمريض أن يتجنب إضاعة الوقت وتفاقم الحالة التي يعانيها ما يحميه من مشكلات صحية عديدة أكثر تعقيداً.
يضاف إلى ذلك دور طبيب الأسرة كمرشد طبي للمريض في حياته لحمايته من مشكلات صحية عدة عبر توجيهه نحو فحوص الكشف المبكر، وإذا كانت دول العالم كافة تعتمد على هذا الاختصاص كخطوة أساسية لا بدّ لأي مواطن اللجوء إليها أولاً، يبدو الطريق طويلاً قبل بلوغ هذه المرحلة في لبنان، وإن كانت الأزمة قد أسهمت في زيادة الوعي في هذا المجال. إذ أصبح المواطن أكثر ميلاً للاعتماد على طبيب الأسرة للحد من النفقات المترتبة عن المعاينات الطبية التي باتت باهظة ويصعب على الكل تحملها، خصوصاً عند الانتقال من طبيب إلى آخر في مجالات متعددة من دون أن تكون هناك حاجة لذلك أحياناً.
لكن، يبدو واضحاً أن الوعي ينقص في هذا المجال حتى اللحظة ولا يزال المواطن اللبناني يستخف بدور طبيب الأسرة مفضلاً في كثير من الأحيان الاعتماد على طبيب متخصص في مجال معين.
هناك سوء تقدير للدور الأساسي لطبيب العائلة للقطاع الصحي والمجتمع في لبنان (رويترز)
طب الأسرة كاختصاص
بعد دراسة الطب لمدة سبع سنوات، يتخصص الطبيب في مجال طب الأسرة خلال ثلاث سنوات. هذا ما توضحه الاختصاصية في طب الأسرة غريس أبي رزق مشيرة إلى أنه في هذه السنوات الإضافية، يدرس طبيب الأسرة مختلف الاختصاصات والمجالات ليكون قادراً على معالجة أي مشكلة صحية يمكن أن يتعاطى معها.
وعلى رغم ذلك، ينقص الوعي في لبنان حول دور طبيب الأسرة وثمة سوء تقدير لأهميته. ما يميّز طبيب الأسرة أنه قادر على معالجة أفراد العائلة من الطفولة إلى مرحلة متقدمة في العمر، فيكون قادراً على تقديم الرعاية الصحية في أي مشكلة صحية يمكن التعرض لها، كالالتهابات الرئوية، والتهابات جهاز البول، والمشكلات النسائية، والأمراض الفيروسية وغيرها.
وتتابع أبي رزق أنه "انطلاقاً من تجربتي الشخصية، في معظم الأوقات، لا تكون هناك حاجة إلى توجيه المريض إلى طبيب متخصص في مجال ما. فيمكن معالجة معظم المشكلات الصحية التي يتعرض لها المريض. حتى أنه خارج لبنان، لا يمكن التوجه إلى طبيب اختصاصي قبل زيارة طبيب العائلة، وهذا ما تفرضه الدولة، خصوصاً أنها تغطي تكاليف الرعاية الصحية للمواطنين. لا يساعد ذلك على الحد من الإنفاق فحسب، إنما أيضاً لطبيب العائلة دور أساسي في توجيه المريض في مختلف مراحل الحياة لإجراء الفحوص الروتينية في مواعيدها، ما يسمح بالكشف المبكر عن أمراض عديدة لمعالجتها بمزيد من الفاعلية وتحسين فرص التعافي".
طبيب العائلة وجوده أساسي
وبدلاً من التنقل بين أطباء من اختصاصات متعددة، يمكن لطبيب العائلة أن يعالج المريض بشمولية، ويساعده على تخطي المشكلات التي يعانيها أو معظمها على الأقل، ما يخفف من العبء المادي ويحد من إضاعة الوقت والطاقة، وكون أنه لطبيب العائلة مقاربة شاملة، يعتبر وجوده أساسياً لكل عائلة، لذلك، تشدد أبي رزق على ضرورة أن يكون لكل عائلة طبيب أسرة يشرف على الحالة الصحية لأفرادها كافة، حتى أنه من الممكن أن يتنبه إلى أعراض معينة تسمح له بكشف مشكلات صحية في مراحل مبكرة ومن دون تأخير.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذلك في مختلف دول العالم، ثمة دور أساسي لوجود طبيب العائلة حتى تغطي الدولة تكاليف الرعاية الصحية، ففي نسبة 90 في المئة من الحالات، لطبيب الأسر المعلومات اللازمة كافة للتعاطي مع أي حالة يمكن أن يصادفها، وهذه الشمولية التي يتمتع بها في نظرته الطبية، تعطيه هذه الأهمية في حياة الأفراد، بما أنه على اطلاع في مختلف الاختصاصات، وتخصصه هذا مشابه لتخصص أي طبيب متخصص آخر، فإما أن يتولى الحالة ويعالجها، أو أن يوجه المريض إلى الطبيب المختص بشكل مباشرة وسريع، في حالات معينة لمتابعته. وفي كل الحالات تكون نتيجة الفحوص والمتابعة بإشراف طبيب الأسرة ذاته، لذلك، تولد بينه وبين المريض علاقة خاصة مبنية على أساس الثقة، كونه يشرف على حالته الصحية في مختلف مراحل الحياة ويرشده في إحاطة شاملة، وبحسب أبي رزق، "يصبح طبيب الأسرة طبيباً نفسياً أيضاً للمريض، ويصبح فرداً من العائلة. فهو يوجه أفرادها في مختلف مراحل حياتهم، خصوصاً أنه على دراية بالمشكلات الصحية كافة الموجودة في العائلة والسجل الصحي لأفرادها".
ازدياد الوعي
لكن في لبنان، على رغم ازدياد الوعي حول أهمية طبيب العائلة في السنوات الأخيرة، لا يزال هناك نقص في التوجيه في هذا المجال، خصوصاً أن المريض يتكفل بالنفقات المرتبطة بحالته الصحية بغياب توجيه الدولة وتغطيتها، حتى أنه يجهل أين يتوجه عند مواجهة مشكلة صحية معينة، ولو كانت الدولة تغطي هذه النفقات لكانت وجّهته إلى طبيب العائلة حكماً، كما في مختلف دول العالم.
انطلاقاً من تجربته في العمل في القطاع الصحي في إيطاليا، يشير طبيب الأمراض الداخلية والطوارئ حسين الهواري إلى أنه في أوروبا، هناك تركيز على دور طبيب البلدة الذي يتوجه إليه الناس عند مواجهة أي مشكلة صحية، ويكون هذا الطبيب ملماً بمختلف الأمراض التي يمكن مواجهتها، ما يسمح له بتشخيص أي مشكلة صحية أو معظمها على الأقل، علماً أن هذا الطبيب يكون موظفاً لدى الدولة ويتقاضى راتباً منها في دول معينة فيقصده الناس للمعاينة ولتلقي الرعاية الطبية ضمن دوام عمل معين.
مراكز الرعاية الأولية
في لبنان، بوجود مراكز الرعاية الأولية، خلال الأزمة، بات الناس يتوجهون إليها بمعدلات كبرى، ويقصدون على هذا الأساس طبيب الصحة العامة، لكن بشكل عام، يميل اللبناني إلى اختيار الطبيب المتخصص في مجال معين أكثر من اعتماده على طبيب العائلة، كما في دول أخرى. هذا، على رغم أن طبيب الصحة العامة قادر على تشخيص معظم حالات المرضى الذين يعاينهم، وعند الحاجة، يمكن أن يوجه المريض إلى الطبيب الاختصاصي في مجال معين بحسب طبيعة المشكلة، والأهم، أن من لديه طبيب صحة خاصاً تكون لديه ثقة تامة بآرائه، وبتشخيصه، وبما يصفه من فحوص، ما يساعد على تجنب مشكلات صحية عديدة.
أضاف الهواري "ثمة حاجة ماسة إلى تنظيم الحقل الطبي في لبنان، كما في الدول المتقدمة. فهذا يمكن أن يساعد على تأمين الأمان للمواطن على المستوى الصحي. لكن، حالياً، نلاحظ أن للأشخاص الذين يتمتعون بالوعي في لبنان طبيب أسرة خاصاً يقصدونه ويثقون بمشورته الصحية، ولا يمكن أن يتصرفوا إلا بالعودة إليه، وبوجود طبيب الأسرة، يمكن أن يحظى المريض بالإرشاد الصحي اللازم بمجرد ظهور أعراض معينة، ليعرف ما يجب فعله بأسرع وقت ممكن ويتلقى العلاج، لأن التأخير لا يكون غالباً لمصلحة المريض ويمكن أن يزيد الحالة سوءاً. ففي كثير من الأحيان، قد تسهم مشورة طبيب العائلة في إنقاذ حياة المريض عبر توجيهه بالشكل المناسب في الحالات التي يكون فيها عرضة للخطر في حال الإهمال أو التأخير. هذا، إضافة إلى دوره في الحد من الإنفاق على المعاينات الطبية والفحوص. لذلك، تعطى أهمية كبرى لطبيب العائلة في الدول المتقدمة ويعتبر مجال اختصاصه من أكثر الاختصاصات رواجاً، ما لا يزال ناقصاً في لبنان بسبب سوء التوجيه وسوء التقدير لدور طبيب العائلة وأهميته".
خطوات أولى فاعلة
في سبيل زيادة الوعي حول أهمية الدور الذي يلعبه طبيب الأسرة بالنسبة لكل مواطن، ثمة حاجة إلى خطوات معينة يمكن أن تساعد، وقد اتبعتها بقية الدول ضمن استراتيجياتها الصحية. وبغياب المبادرات الرسمية في هذا المجال، وبما أن الرعاية الصحية هي على نفقة المواطن في لبنان ويغيب توجيه الدولة، يبرز دور المبادرات الخاصة التي تقوم بها المستشفيات.
وتشير طبيبة الصحة العامة ثريا عرابي إلى أنه في لبنان والدول العربية، لا تزال هناك قلة تقدير للدور الأساسي لطبيب الصحة العامة وطبيب الأسرة، وإن كانت معدلات الوعي بدأت تزيد في هذا المجال بعد أن فرض بعض المستشفيات نظاماً معيناً يقضي بتوجيه المريض أولاً إلى طبيب العائلة قبل التوجه إلى أي طبيب مختص آخر، فلا يحظى المريض بتغطية صحية إلا في حال التوجه إلى طبيب العائلة أولاً، قبل التوجه إلى طبيب اختصاصي في مجال معين "في النسبة الكبرى من الحالات، يكون طبيب العائلة قادراً على تقديم الرعاية الصحية للمريض، وتشخيص الحالة، ومعالجتها من دون الانتقال إلى طبيب اختصاصي في مجال معين. وهذا الطريق بدأت تسلكه مختلف المستشفيات الكبرى في لبنان. فطبيب الأسرة على دراية بمختلف الأمراض، ويمر على مختلف الاختصاصات في مجال تخصصه، ويكون على معرفة بتفاصيلها ما يجعله مؤهلاً وقادراً على معالجة أي مشكلة صحية، وتقديم الرعاية الصحية اللازمة في الوقت المناسب".
توجيه المرضى وتشخيص المشكلة
وإذا لم يكن طبيب الأسرة قادراً على تولي الحالة، إذا كانت تتخطى إمكاناته، يوجه المريض إلى الطبيب المناسب. هذا، إضافة إلى دوره الأساسي في توجيه مرضاه إلى الفحوص الروتينية التي يجب أن تجرى في الوقت المناسب بالاستناد إلى التاريخ الصحي للعائلة طالما أنه يكون طبيباً لكل أفراد العائلة. لذلك يعتبر اللجوء إليه خطوة أساسية يجب عدم تخطيها لتلقي العلاج المناسب من دون تأخير، فالمشكلة الأساسية في حال عدم الاعتماد على طبيب العائلة في إضاعة الوقت، بحسب عرابي، بالتنقل من طبيب إلى آخر في محاولة تشخيص حالة ما، ما يزيد من الأخطار الصحية التي يمكن أن يتعرض لها المرضى. "وفي كثير من الحالات، يمكن أن يستهتر المريض بأعراض معينة، وقد ينتقل من طبيب إلى آخر ما يؤدي إلى تأزم الحالة وبلوغها مرحلة متقدمة تزيد من صعوبة العلاج، إضافة إلى هدر الطاقة عبر الانتقال بين الأطباء، في وقت قد تكون الحالة بسيطة وكان من الممكن معالجتها بسهولة في البداية".
فطبيب العائلة قادر على حل المشكلة مباشرة أو أن يوجه المريض إلى طبيب مختص معين على أساسي الأعراض التي يمكن أن يلاحظها، كما يساعد المريض على توفير المال في ظل الوضع المعيشي الصعب ومعاينات الأطباء المكلفة.
خطوة أساسية
اللجوء إلى طبيب الأسرة خطوة أساسية لا بد من زيادة الوعي حول أهميتها، إذ يجب القيام بها قبل الانتقال إلى أي اختصاص آخر. لذلك، هناك تركيز كبير عليه في مختلف دول العالم نظراً لأهمية دوره على مختلف الأصعدة في المجتمع وفي القطاع الصحي. فمن المؤسف أنه ثمة قلة تقدير لهذا الدور في لبنان، وكأن الطبيب المتخصص يعتبر أكثر أهمية، فيتوجه المريض إلى أطباء من اختصاصات، ولو لم يعودوا بالفائدة للحالة المعنية. فليس صحيحاً أن الطبيب المتخصص في مجال آخر هو أكثر معرفة، بحسب عرابي، لأن طبيب العائلة يتمتع بنظرة شاملة لاضطلاعه على مختلف الأمراض، وهناك مشكلات صحية عديدة تتشابه أعراضها ما يؤدي إلى ارتباك المريض وتوجهه إلى طبيب اختصاصي من دون آخر، وسرعان ما يتبين أن حالته كانت تستدعي طبيباً من اختصاص آخر، فيؤدي ذلك إلى هدر المال والوقت والجهد، وقد يتعرض إلى المزيد من الخطر بسبب التأخير الحاصل، وهذا ما قد يحصل مثلاً في أعراض مشكلات المعدة وتلك المرتبطة بالقلب التي قد تتشابه أحياناً. لذلك، من الأفضل ألا يختار المريض تلقائياً الطبيب المختص الذي يحتاجه لحالته، وطبيب العائلة هو من يمكن أن يوجهه ويرشده في ذلك.
أيضاً، في القطاع الطبي، يساعد وجود طبيب العائلة والاعتماد عليه في الحد من الضغوط على قسم الطوارئ بشكل خاص، لاعتبار أن المرضى يتوجهون غالباً إلى الطوارئ لدى ظهور أعراض معينة لأنهم يجهلون سبب مشكلتهم والمكان الذي يجب التوجه إليه لمعالجتها، ويمكن لطبيب العائلة عندها أن يحوّل الحالة إلى الاختصاصي أو يكون على تقديم العناية اللازمة، خصوصاً في مشكلات بسيطة لا تستدعي التوجه إلى طوارئ المستشفى في كل مرة، وللاعتماد على طبيب العائلة أثر إيجابي على المريض، والطبيب، والمستشفى، والطاقم الطبي كاملاً، والمجتمع. وبوجوده، يزيد الوعي والإرشاد بشأن المسار العلاجي كاملاً في مختلف مراحل الحياة وفي حالات معينة بشكل خاص.