"كولونيا"... دراما نفسية تطالب بفرصة أخيرة للحب والتسامح
دارت أحداث لفيلم "كولونيا" خلال يوم واحد فقط لتركّز على العلاقات الأسرية المتهالكة، ومحاولات الترميم قبل فوات الأوان، وتتابعت المشاهد لتقدم دراما إنسانية ونفسية وعائلية ذات تناول عميق في الشخصيات ومعاناتها النفسية
بلغة سينمائية مختلفة تميل إلى الاتشاح بالسواد تطل المشاهد الأولى من فيلم "كولونيا" الذي لعب بطولته الممثل الفلسطيني المخضرم كامل الباشا، والموهوب الشاب أحمد مالك ومايان السيد وعابد عناني ودنيا ماهر.
يظهر الأب في البداية وهو متوفى ومحمولاً على أيادي غرباء يضعونه للمرة الأخيرة في فراشه قبل التحضير لمثواه الأخير والاستسلام لشعائر الدفن ومراسمه. ووسط حزن الجميع وبكائهم يسيطر الجمود والوجوم على وجه فاروق (الابن الأصغر) الغامض، فلا دموع تذرف، ولا رمشة حزن واحدة تحدث.
يثير الابن التساؤلات، ويسيطر الشك على المشاهد الأولى، ويتخلل الجميع إحساس دفين بوجود علاقة بين الابن ووفاة الأب، إضافة إلى تصاعد حدة الغضب من وجه الشاب العابث لمعرفة ما يحمله من أسرار. تسيطر صورة زرقاء داكنة أقرب للرمادية، لتبرز حالة من الملل والضجر والحزن والبرود والغموض أيضاً، يتصاعد الفضول لمعرفة ما يحمله هذا البيت، وأفراده من خبايا دفعت لكل هذا التوتر والعبوس الظاهر على الجميع.
تتراجع الأحداث 24 ساعة قبل الحدث الأساسي وفاة الأب، فيذهب المخرج بالمشاهدين تدريجاً لاكتشاف حقيقة هذه الشخصيات المتجمّدة شعورياً فنعرف من هو فاروق الشاب الفاشل الفاسد الذي يضرب بكل التقاليد والمثل عرض الحائط، ينحرف فاروق في كل الطرق المشبوهة بلا هوادة أو مراجعة فيدمن المخدرات ويبيعها، ويتعاطى أنواعاً كثيرة من الممنوعات، ويرتبط بعلاقة غير شرعية مع فتاة شابة تخبره أنها حامل في أول طفل لهما، وعليه أن يشرع سريعاً في الزواج قبل افتضاح الأمر. باختصار يمثل فاروق خليطاً قبيحاً من كل ما هو كريه ومرفوض وممنوع ومتدن.
تأتي اللحظات التي ينتظرها الجميع لتكشف سر عداوة فاروق وأبيه والضغينة التي لا ينكرها الابن، لنعرف أن فاروق معقد بسبب سوء معاملة والده لوالدته الراحلة، التي يتخيل أنه كان السبب في تعاستها لدرجة الموت. يعاقب الابن أباه على رحيل أمه بتعذيبه بالجفاء والكره والخصام والخذلان، ولا يسمع ما يحمله أبوه من أسرار. ولأن الصمت كان اللغة الأم بالعمل تبرز انفعالات الجميع المتغيرة، والتكبر على الإفصاح عن حبهم الدفين مهما كانت القسوة الظاهرة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتزايد الفجوة بين الابن وأبيه بسبب تعالي الأب على فكرة الحديث والشرح والتبرير حتى ولو كان بنية التسامح وتصفية القلوب. في ليلة وفاة الأب، التي خرج قبلها من المستشفى بعد إفاقته من غيبوبة شهور يحدث الكثير مع فاروق ابنه العاق، فعندما يفتح الأب قلبه لابنه، يتهاوى غرور وصلف الابن بدافع أقوى منه وهو الحنين والانتماء الفطري للدم وعلاقته بأبيه، يضعف فاروق أمام وهن أبيه ويدرك في قرارة نفسه أن هناك صفحة جديدة بيضاء وسط أوراق سوداء ستفتح في تلك الساعات الباردة، ويدب فيه الشعور بأنها قد تكون الليلة الأخيرة.
يخرج فاروق على رغم المخاطرة مع أبيه في نزهة ويتحدثان ويكشفان الأسرار والخبايا التي تجعل الأمور تقاس من زاوية جديدة، ويدرك فاروق أن الأشياء ليست كما كانت تبدو، وكان عليه أن يقترب ليكشف أنه عاش سنوات ضحية صورة مُضللة عكّرت علاقته بوالده، وكان يمكن أن يكونا ابناً باراً ووالداً سعيداً لو منح لحظة واحدة للتسامح والغفران.
علاقة الأب والابن من أعقد الموضوعات التي تفتح المجال للإبداع والدراما النفسية، والسرد السينمائي الخصب، ومهما اختلفت الحكايات تشكّل تلك المنطقة عنصر جذب عند المشاهدين وبالنسبة إلى الممثلين وصناع السينما أيضاً.
تناول المخرج محمد صيام علاقة الأب والابن في إطار "الديستوبيا" وهي طريقة أدبية يرى أصحابها أن الأرض تعج بالشر والناس لا تحمل إلا الأحقاد، وهي طريقة عكس "اليوتوبيا" أو المدينة الفاضلة التي تعكس الحلم المثالي في الحياة والبشر والأخلاق. وربما أراد المخرج أن يكون قاسياً وواقعياً يجرد الأشخاص من العاطفة والنبل ليغوص في عمق الحقيقة ويكتشفها فتظهر الصورة بوضوح والعاطفة بتجلي بعد فهم كل الأمور.
أبرز المخرج رتابة الحياة وقبحها عندما تفتقد الأسرة الدفء العاطفي والتفاهم، وعندما تكون هناك عقدة تترتب عليها أمراض نفسية وشروخ في العلاقات لا يمكن ترميمها، ونبه المخرج بشكل غير مباشر إلى أهمية الحديث بين الأهل والمصارحة، لأنها أهم خطوات التسامح ونبذ الكراهية وبناء مساحات إنسانية متجددة داخل قلوب الأحباء.
البطء الشديد كان وسيلة من وسائل المخرج ليشعر الناس بملل الحياة الباردة التي عاشها فاروق وأبوه وأخوه، وحاول التركيز على ثلاثة عناصر هي: الصمت، والقتامة في الصورة، وبطء الإيقاع في مشاهد سوء التفاهم والكراهية بين الأب والابن.
وربما كانت المبالغة في القتامة والصمت والبطء تمهيداً للشطر الثاني من العلاقة بين فاروق وأبيه بعد التودد والمصارحة، وسيطرة أغاني محمد عبد الوهاب في أثناء تنزههما في عتمة الليل بسيارة الأب القديمة. لاحظ المشاهد الفرق بين أجواء وألوان وإيقاع ما قبل الحقيقة وبين رقة وعذوبة اللحظات الأخرى، وكأن الليل قد تبدد والبرودة انقشعت بكشف الأقنعة الزائفة والأسرار التي تغير مسار اللحظات الأخيرة وعلاقته بابنه قبل موته بساعات.
أجاد أحمد مالك الاختيار، فوقع على دور بعيد من شخصيته ومليء بالتحديات، فعليه أن يعبّر من دون كلمات عن أحاسيس وعقد نفسية لا يجب حتى أن يفهم أسرارها أحد، ونجح مالك في الخروج من منطقته الآمنة كممثل على رغم الاعتراف بقدراته من الجميع في أعمال سابقة، لكنه كان أكثر نضجاً وتمكناً في أداء التناقضات من دون مبالغة، والتنقل بين الأحاسيس المضطربة بهدوء جعل البعض يشعر بالغثيان.
وحصل أحمد مالك في مهرجان الجونة بدورته الثامنة التي أسدل عليها الستار منذ أيام على جائزة أفضل ممثل عن هذا الدور، وينتظر أن يحقق تميزاً جديداً بعد عرض الفيلم في مهرجان البحر الأحمر بجدة خلال الفترة المقبلة.
تعمّد محمد صيام وشريكه المخرج والكاتب أحمد عامر في أثناء كتابة وتقديم والشخصيات أن تكون شخصيات عدمية في مجملها ليبدو كل شيء متهالكاً في عمل متشح بالسواد، لكن في داخله لحظات إبداعية يعكسها أداء أبطاله. ووضع الأداء المتميز المحنك للممثل الفلسطيني كامل الباشا الفيلم في منطقة شديدة التأثير، فأداء دور الأب الذي يعصف بابنه، وفي الوقت ذاته يتمزق بسبب عاطفة الأبوة في كبرياء كان شديد الإحكام من دون زيادة أو نقصان.
والأبرز أن الباشا جعل من يشاهدون العمل يذرفون الدموع على ذكرياتهم مع آبائهم وجدد الحنين للفرص المستحيلة التي يتمناها كل شخص ليعود ويفتح صفحة من التسامح مع أبيه الراحل الذي يشبه حكاية الفيلم وشخوصه.
دارت أحداث الفيلم خلال يوم واحد فقط لتركّز على العلاقات الأسرية المتهالكة، ومحاولات الترميم قبل فوات الأوان، وتتابعت المشاهد لتقدم دراما إنسانية ونفسية وعائلية ذات تناول عميق في الشخصيات ومعاناتها النفسية. بالتركيز على 24 ساعة فقط قبل وفاة الأب ليجعل الفيلم لحظة مفصلية زمنية مكثفة من دون التوسّع المفرط في تاريخ الشخصيات على رغم أن هذه النقطة أربكت ترتيب الفهم الخاص بالأبطال ودوافعهم في كثير من المشاهد التي تجمع الممثلين بخاصة بين الأب والابن، وربما كان هذا البخل في التاريخ الشخصي للأبطال وشرح الملابسات محاولة لمنح لحظة تسامح وتفاهم مهما كانت قسوة الشخصيات ومن دون فهم دوافعها لدرجة التعاطف، لتكون الرسالة الأساسية أن نتسامح ونفصح مهما كانت الظروف، فالحياة تستحق الفرص حتى اللحظة الأخيرة وقبل فوات الأوان.
وعلى رغم ملاحظات القتامة والبطء يعتبر "كولونيا" خطوة سينمائية مهمة نحو اتجاه واقعي، للتعبير عن اللحظات الإنسانية بعيداً من الطرق التقليدية، فالعلاقة الإنسانية العميقة لم تكتف بالمظاهر والتوقعات، بل طرقت أبواباً جديدة، وشهدت حدة في تصوير لحظات الغضب والكره والصفح والتسامح والمواجهة بطريقة أقرب للدراما النفسية التشويقية الحديثة، وترك الفيلم اسم "كولونيا" ليؤكد أن المشاعر الإنسانية تبقى كذكريات حتى وإن رحل صانعوها وفارقنا أصحابها.