"شكوى رقم 713317"... عطل صغير يفضح عطبا كبيرا
مسار فيلم "شكوى رقم 713317" يركز على ما يسمى "اللا حدث" فلا أحداث تتطور بصورة درامية منطقية، وموقع التصوير أيضاً لا يتغير فمنزل مجدي وسما هو المركز الرئيس لكل المشاهد. والمهارة الحقيقية هي تحويل تلك المنطقة الصغيرة المغلقة إلى مادة درامية متطورة ومتماسكة وشيقة أيضاً رغم استخدام التكرار والمفارقات للتعبير عن طبيعة الشخصيات وتفاصيل الواقع.
أسهل ما يمكن أن يقدمه صناع السينما والدراما هو مناقشة قضية أو مشكلة ظاهرة على الساحة بصورة تجعلها حديث الناس، أو أزمة مؤثرة لدرجة لا يستهان بها، لكن التحدي الفني الحقيقي وسحر السينما ونعومة الفن يكمن في التفاصيل الصغيرة الهادئة الناعمة التي تعكس قضايا خطرة، وتصول وتجول بين الأوجاع بعمق غير ظاهر أو مباشر، وكلما ابتعدنا من تقديم رسائل معلبة وموجهة كان العمل الفني أكثر جودة وقرب من الروح السينمائية التي تكره القواعد الواقعية المباشرة على الشاشة الفضية.
ويعد فيلم "شكوى 713317" مثالاً حياً على فضح البيروقراطية والتعنت والفساد المجتمعي وهشاشة العلاقات من خلال عطل أصاب ثلاجة أبطال العمل الأساسيين. تبدأ الأحداث في حي المعادي الشهير بالقاهرة، حيث يعيش رجل تعدى الـ60 مع زوجته التي شاركته رحلة حياته، تسير حياتهما التي تبدو هادئة حتى تتعطل الثلاجة فينزعج البطل الذي يدعى مجدي، محاولاً إيجاد حل سريع.
الأزمة بسيطة فمجرد فني صيانة أو خبير أجهزة كهربائية قد يصلح العطل ولن يستغرق دقائق، لكن كان هدف العمل تفجير القضايا الكبيرة من مشكلة صغيرة، فثلاجة في منزل متوسط الحال لا تعني أحداً، ولا تشكل أية قيمة، لكن في تلك الحالة وفي منزل مجدي وسما الزوجين الهادئين تحولت إلى معركة كرامة وصراع مع الفساد والتعطيل والتراخي وصناعة الأزمات في بلد المليون مواطن.
وتكتشف منذ بداية المشاهد أن مسار الفيلم يركز على ما يسمى "اللا حدث" فلا أحداث تتطور بصورة درامية منطقية، وموقع التصوير أيضاً لا يتغير فمنزل مجدي وسما هو المركز الرئيس لكل المشاهد. والمهارة الحقيقية هي تحويل تلك المنطقة الصغيرة المغلقة إلى مادة درامية متطورة ومتماسكة وشيقة أيضاً على رغم استخدام التكرار والمفارقات للتعبير عن طبيعة الشخصيات وتفاصيل الواقع.
تظهر في حياة سما ومجدي شخصية أساسية جديدة وهي فني الصيانة الذي مهمته إصلاح الثلاجة، الذي أرسلته شركة الصيانة، وأدى بدوره الممثل الكوميدي محمد رضوان، وعلى رغم بساطة شخصية هذا الرجل في الظاهر لكنه يعكس تناقضات كبيرة منها الطيبة والخبث والمهارة والفشل والادعاء والبساطة، ويمثل هذا الرجل نموذجاً وإسقاطاً على شخصيات كثيرة في المجتمع تحمل صفات كثير من الفاسدين غير المضرين في وجهة نظرهم، لكنهم يتسببون في الأذى بطريقة غير مباشرة، وهي الزيف والادعاء والبيروقراطية.
ومع تكرار فشل الفني في إصلاح الثلاجة بدافع الارتباك أحياناً، أو عدم الرغبة الحقيقية في بذل مجهود يتطور الأمر إلى سلسلة من الاتصالات والشكاوى من مجدي صاحب الثلاجة للجهة المسؤولة عن الإصلاح، ويتحول الأمر من مجرد حكاية جهاز كهربائي معطل لأزمة منظومة كاملة من اللا مبالاة، ودوامة لا نهائية من البيروقراطية يعانيها المواطنون.
أبرز ما في الفيلم هو استخدامه حبكة غير تقليدية أتاحت طرحاً جديداً، وهو إعادة تدوير مشكلة واحدة في سياقات جديدة داخل الأحداث، وأراد المخرج أن يؤكد أن هناك مشكلات ثابتة قد تبدو بسيطة، لكنها تتضخم مع الزمن، ولا تتغير، بل تحدث نوعاً من الإرباك وشعوراً مخزياً بالإحباط والإهانة.
يراهن الفنان محمود حميدة بشجاعته المعهودة على تجسيد أدوار خارج الصندوق، مثل مشاركاته في أفلام "جنة الشياطين" و"عفاريت الأسفلت" و"بحب السيما" و"الغسالة" و"حرب كرموز" وغيرها، وفي فيلم "شكوى رقم 713317" كسب الرهان مجدداً، وفجر مفاجأة كبيرة بدور مجدي الرجل الذي يبدو بسيطاً وهادئاً ومنتهياً من كل المباهج والصراعات الواقعية والحياتية، لكن مع مشكلة صغيرة تتصاعد داخله أحاسيس الغضب والإحباط والعجز، ويشتعل الصراع الراغب في المواجهة لأمور كثيرة رفض أن يتصدى لها في حياته سنوات طويلة.
جاءت أزمة الثلاجة، لتخرج من الشخص الهادئ المستسلم روحاً جديدة تحمل التحدي والرغبة في تصفية الحسابات القديمة ومناقشة الفساد الذي تغاضى عنه في سنوات شبابه وحياته. فجسد حميدة الشخصية بتلقائية جعلت المشاهد يشعر أنه يعرف هذا الرجل، فهو الأب أو الجد أو الجار الذي يوجد في أية عائلة في الحياة الحقيقية بصورة طبيعية لا مجرد ممثل نجح في تجسيد شخصية سينمائية.
وربما شجاعة حميدة في تجسيد الدور منحت العمل جواز المرور للجمهور، وأضفت على العمل قبولاً مسبقاً لفكرة المشاهدة والمناقشة والاستيعاب للشكل السينمائي المختلف الذي قدمه المخرج ياسر شفيع في أول تجربة سينمائية طويلة له.
أما تجسيد الفنانة شيرين دور شخصية سما الزوجة المسالمة الهادئة التي لا تتحدث كثيراً، وتفضل التعبير بالمشاعر الداخلية عن الغضب والإحباط وخيبة الأمل وحتى التحدي كان امتداداً منطقياً لبراعتها في تجسيد دور هذه المرحلة العمرية، وتلك المساحة من الأدوار الهادئة العميقة بعد نجاحها في تقديم أدوار قريبة من هذه الشريحة، وأبرزها في مسلسل "سابع جار"، الذي كان نقلة في حياتها الفنية، وأعاد اكتشاف قدراتها التمثيلية التي لم يكن يتوقع أحد أنها تملكها وتحتاج إلى فرصة لظهورها بعد حبسها في دور المرأة الأرستقراطية طوال سنوات رحلتها الفنية تقريباً.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محمد رضوان، الذي أدى دور الفني المسؤول عن إصلاح الثلاجة، يتميز بالحس الكوميدي والدرامي والقدرة على الانتقال بين اللونين من دون مجهود، وكان أفضل ممثل لدور الرجل المتناقض الذي يمثل فساداً بسيطاً، لكنه في الوقت نفسه قد يكون السبب الأساس في منظومة فساد كبيرة تتراكم تفاصيلها عن طريق أمثاله فتتحول إلى كارثة.
وقدم العمل شخصية هذا الرجل "فني الصيانة" بوعي شديد، ليؤكد أن هناك أخطاء قد تبدو غير مقصودة، لكنها تدمر المجتمع، فالرجل ليس شريراً، وليس فاسداً، لكنه يعيش في نظام غير منضبط، فيعيد إنتاج الفوضى من دون أن يقصد، وكلما جاء للإصلاح خلق مشكلة جديدة، أو قدم تبريراً فارغاً، أو ألقى اللوم على قطعة تحتاج إلى التغيير. ومثلت هذه الشخصية معاناة المجتمع مع العطب المؤسسي الروتيني، الذي يتجاوز الأفراد.
نجح المخرج ياسر شفيعي في استخدام الفنانة الكبيرة إنعام سالوسة التي تقترب من قلوب الجمهور بكل فئاته فجعلها تمثل صوت البيروقراطية، إذ هي الصوت الذي يرد بمنتهى التعقيد على شكاوى المواطنين عبر الهاتف. وأضاف الصوت والطريقة وموهبة سالوسة بعداً من الكوميديا السوداء، فهو صوت لطيف وقريب من القلب، لكنه يكرر عبارات محفوظة، ويعمل بصورة آلية من دون وعي أو فاعلية.
وعلى رغم بساطة العمل في مجمله، لكنه كان عبارة عن قطعة من الحياة اليومية التي قد يمر بها أي مواطن عادي بسيط في أية منطقة، وفي جانب آخر حمل الفيلم رموزاً عديدة كان هدفها الغوص في متغيرات الزمن، والإجبار أن يكون الإنسان جزءاً من منظومة تضغط عليه من دون أن تمنحه القدرة على المقاومة.
سار الفيلم بحرفية شديدة على نهج أفلام عالمية شديدة النجاح والتميز استخدمت تفاصيل صغيرة ومشكلات قد تبدو لا تستحق الاهتمام، وصنع من تلك التفاصيل قوة تأثيراً وشرارة لفتح قضايا كبيرة والمرور عليها بعمق من دون أسلوب مباشر أو رسائل خطابية، وقدم درساً مهماً في كيفية استخدام الكوميديا السوداء من دون ابتذال، وكيف يمكن أن نصنع عملاً محدود الإنتاج لكنه قوي التأثير.