العضلات المنسية... السر الذي يحمله حوض النساء في صمت
إنها رحلة عضلات الحوض من رمز للخصوبة في الحضارات القديمة إلى منطقة مكبلة بالعيب والصمت في المجتمعات الحديثة. تعرض الأبعاد الطبية لفرط توتر قاع الحوض وتشنج المهبل وأثرها في الألم والخصوبة والعلاقات الزوجية وصولاً إلى الصحة النفسية. وتشرح خريطة علاج ثلاثية: علاج فيزيائي حوضي، وعلاج نفسي – جنسي، ومصالحة عميقة مع الجسد.
تنبيه: هذا المقال مخصص لكل النساء.
وأنتم أيها الرجال إذا كنتم ممن يختزلون الحوض في "مهمة وظيفية"، ومن أنصار نظرية "المشكلة منك مش مني"، ويظنون أن أية مشكلة تحل بمزيد من "الرجولة"، فالرجاء التوقف هنا. فالأسطر التالية تحتاج إلى فهم وتفهُّم لا يخضعان لـ"الكبرياء الذكورية"، إنما للعلم والوعي والشراكة.
لطالما كانت القوة تقاس بعضلات الذراعين أو ببروز عضلات البطن حتى على الشاشات، في حين بقيت عضلات الحوض في الظل تماماً، في المنطقة التي يسكنها الحياء والعيب أكثر مما يسكنها الوعي. تلك العضلات الصغيرة، التي نادراً ما نسمع باسمها في أحاديث القوة أو الجمال، هي في الحقيقة مركز التوازن، والمفتاح السري للصحة الجنسية والخصوبة، وحتى للوقوف والمشي والتنفس كما يجب.
الحوض ليس مجرد جزء تشريحي في جسم الإنسان، إنه في الواقع رمز ثقافي ضارب في التاريخ. ففي الحضارات القديمة كانت النظرة إلى الحوض بوصفه مهد الخلق، وحوض الآلهة القديمة الذي تنبت منه الحياة. فكانت عشتار، إلهة الحب والخصوبة في الميثولوجيا البابلية والأكادية والآشورية، أو عشتروت الفنيقية، بجسدها الممشوق وحوضها العريض رمزاً للخصب والوفرة، للأرض التي تثمر والأنثى التي تلد، وللحياة التي تجدد دوماً، ومثلها إينانا السومرية وأفروديت الإغريقية وفينوس اليونانية. كان الحوض آنذاك فضاءً مقدساً واهباً للحياة، غير مجبول بالأعراف والتقاليد والعيب.
ثم تغير كل شيء. حين دخلت المجتمعات عصور الوصاية على الجسد، وتحول الحوض من رمز الخلق إلى موضوع خجل، ومن مصدر الحياة إلى منطقة صمت. غطي بكثير من الممنوعات، وحوصرت وظيفته تماماً. ونسي أنه مركز الطاقة والخصوبة لكلا الجنسين، وأنه من دونه لا تنهض حياة ولا تتوازن قامة. هذا الكبت خلق مشكلات كثيرة وأكثر من دفع ثمنها هي المرأة، التي أصبحت تحمل حوضها كإثم في مجتمع لا ينصفها.
لكن لماذا تتعطل عضلات الحوض دون سواها؟
الواقع أنه عندما تتعرض عضلات قاع الحوض الأنثوية، وهي شبكة معقدة من الألياف التي تلتف حول المثانة والرحم والمهبل والمستقيم، إلى توتر مزمن أو خوف متكرر أو تجربة أليمة أو ولادة صعبة أو صدمة جنسية أو حتى تربية قائمة على الكبت والخجل، يبدأ الجهاز العصبي في إرسال إشارة دفاعية عنوانها "احمي نفسِك". فيستجيب الجسد حرفياً، وتنقبض عضلات الحوض كما لو أنها تحاول إغلاق الممرات. ومع الوقت يتحول الانقباض الوقائي إلى تشنج دائم، يعرف طبياً باسم فرط "توتر عضلات قاع الحوض".
وعادةً تشد المرأة رجليها لأن جسدها صار يترجم الخوف حرفياً. فالدماغ البشري، عند مواجهة تهديد أو ذكرى تهديد، يفعل "منعكس الحماية" فيشد الفخذين ويغلق الحوض كمن يحمي نفسه من اختراق أو ألم.
هذا الانقباض اللاإرادي يصبح مشروطاً نفسياً ويحدث حتى من دون وعي، وتصبح الساقان كجناحين يغلقان على سر لا يريد الجسد أن يبوح به. ما يسمى طبياً muscle guarding reflex أي انعكاس حماية عضلية يحدث مع أي منطقة تعرضت للألم أو الصدمة.
لكن في الحوض الأنثوي يكون تأثيره مضاعفاً، لأن الحوض ليس فقط منطقة جسدية، بل مخزن للذاكرة العاطفية، لكل خوف وخجل وتجربة سلبية أو فقد، كلها تخزن فيه.
وعندما تغلق المرأة ساقيها بقوة، فهي تحاول الدفاع عن نفسها من ذاكرة أو حكم. وعندما يتعطل حوضها، لا يعني أنه فقد وظيفته، إنما لإحساسه بأنه تعب من الحراسة الدائمة فيشكل سداً منيعاً يريحه.
ولأن المجتمعات علَّمت المرأة أن الحوض "منطقة عيب"، فقد أصبح الألم صامتاً، والجسد ناطقاً بدلاً من اللسان. وهكذا، فإن إنقاذ عضلات الحوض إضافة إلى التمارين العلاجية بسيطة كانت أو معقدة غير كافية وحدها، ولا بد من القيام بمصالحة مع الجسد والأنوثة بلا خجل ولا خوف.
الصراع مع الجسد لم يبدأ حديثاً، ولا حتى مع جيل مُرتبك أو ثقافة محافظة، إنما يعود إلى زمن قديم جداً حين تخلت النساء عن لغتهن الأولى، الإصغاء إلى أجسادهن. فبينما ركزت الحضارات القديمة في الصين والهند واليونان وروما على تمارين واعية لعضلات الحوض شداً وإرخاءً وتنفساً، إلا أن العالم دخل في عصور طويلة من الصمت. وخلال القرون الوسطى خمد كل خطاب يتعلق بالجسد الأنثوي، وكأنه لم يعد يسمح للمرأة بأن تعرف أو تتعرف إلى عضلاتها وجسدها.
واليوم، عاد الطب ليكتشف ببطء ما عرفته الجدات منذ آلاف السنين، بأن السيطرة على عضلات الحوض ليست ترفاً ولا حيلة جنسية، إنما أساس صحة المرأة، وعاد الاهتمام العلمي بهذه المسألة بقوة في منتصف القرن الـ19 في السويد وبريطانيا. فيما أسست الأميركية ماري ماكميلان عام 1921 جمعية العلاج الفيزيائي APTA، ثم عام 1936 أدخلت الممرضة ومدربة العلاج الطبيعي البريطانية ميني راندل تمارين الحوض إلى أجنحة الولادة، قبل أن تطور تلميذتها مارغريت موريس نظاماً يقوم على الانقباض الواعي واسترخاء عضلات الحوض، وهي الفلسفة التي سيبنى عليها لاحقاً الإرث الأكثر شهرة اليوم، والذي يعرف بـ"تمارين كيغل" التي اعتمدها طبيب الأمراض النسائية الشهير أرنولد كيغل عام 1948 وغيرت تاريخ صحة النساء.
ثم جاءت السبعينيات مع المعالجة البريطانية دوروثي ماندلستام التي نقلت العلاج الحوضي إلى مستوى تدريبي متقدم، لتلحق بها جو لايكوك كأول معالجة فيزيائية تنضم إلى مجلس الجمعية الدولية لسلس البول (ICS) كما يذكر مقال علمي على موقع The Journal of Research on History of Medicine.
وبالطبع هذا التراكم العلمي لم يولد من فراغ. فاضطرابات الجهاز البولي، وبالأخص سلس البول، باتت قضية صحية عالمية تتبناها منظمات ضخمة، لكنها أيضاً حكاية شخصية لنساء كثيرات عايشن الخوف والحرج قبل أن يدركن أن الحل يبدأ من عضلة صغيرة، مهملة، لكنها مركزية في حياة الجسد. ومع تراكم الأدلة خلال العقدين الأخيرين حول أهمية تمارين قاع الحوض في علاج سلس البول لدى الرجال بعد استئصال البروستات، أصبح دور المعالج الفيزيائي أكثر وضوحاً ضمن فريق متعدد الاختصاصات يضم أطباء المسالك البولية والنسائية.
أما بخصوص التشنج أو ما يعرف طبياً بـ Vaginismusأي "الانقباض التلقائي" وغير الإرادي لعضلات المهبل والحوض، فالتاريخ الطبي يسجل أن هذا المصطلح استخدم منذ القرن الـ19 بواسطة الجراح الأميركي جيمس ماريون سيمز عام 1866.
اللافت أن انتشار اضطرابات قاع الحوض عربياً وشرق أوسطياً موثق.
ففي لبنان مثلاً، وثق المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت واحدة من أهم الدراسات حول اضطرابات قاع الحوض عام 2016، عبر بحث استكشافي نشر كتقرير تفصيلي بعنوان "انتشار ودرجة إزعاج أعراض اضطرابات قاع الحوض لدى عينة من النساء في بيروت: دراسة استكشافية"، شمل 900 امرأة راجعن عيادات الرعاية الأولية والعيادات التخصصية في بيروت بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 وفبراير (شباط) 2015. وأظهرت النتائج أن انتشار اضطرابات قاع الحوض واسع، إذ بلغ سلس البول 42 في المئة من العينة، فيما سجلت النساء مستويات متفاوتة من الإزعاج أثرت مباشرة على جودة حياتهن. وبينت الدراسة أن نسبة كبيرة من المصابات لا يطلبن الرعاية الطبية على رغم شعورهن بأن الأعراض تستحق العلاج، وكان "الهم المالي" أحد أبرز أسباب التأخير أو الامتناع عن زيارة الطبيب.
وتوجد عوامل خاصة قد تزيد الألم والشد في بعض البيئات مثل الختان، حيث يتم تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، مع أنه ليس ظاهرة عربية شاملة ولا يشمل معظم بلدان المشرق والمغرب، لكن له أثراً موثقاً على عسر الجماع والألم المزمن حين يوجد، وفق مراجعات ومنهجيات منظمة الصحة العالمية وأبحاث طبية.
تسجل الدول الشرق أوسطية أو ذات القيم المحافظة معدلات أعلى من الدول الغربية في تشنج عضلات الحوض، ويعود ذلك إلى العوامل الثقافية مثل تبجيل العذرية والخجل الجنسي، إضافة إلى التثقيف الجنسي المحدود. وكذلك في اضطراب قاع الحوض أو أمراض الحوض الأخرى مثل هبوط الأعضاء أو سلس البول أو البراز، توجد تفاوتات كبيرة بين الدول بسبب الفوارق في الولادة والرعاية الصحية والتثقيف، وأسلوب الحياة. والاختلافات تعود إلى الخصائص البيولوجية، إضافة إلى الأسلوب البحثي وتعريف الاضطراب، والأعمار المشمولة بالدراسة، والثقافة المحيطة، والأهم مدى استعداد النساء والمجتمع للحديث عن المشكلة.
ووجدت دراسة في السعودية أن 36.3 في المئة من النساء أفدن بأن لديهن أي نوع من سلس البول.
ووجد تحليل تجميعي في إثيوبيا أن نسبة النساء اللواتي لديهن "اضطراب قاع الحوض" بلغت نحو 25 في المئة.
في المقابل، وجدت دراسة سكانية في أميركا أن نحو 25 في المئة من النساء غير الحوامل أفدن بأن لديهن واحداً أو أكثر من اضطرابات قاع الحوض، سلس بولي أو سلس برازي أو هبوط أعضاء، بين عامي 2005 و2010.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعد عضلات قاع أو أرضية الحوض شبكة تحمل المثانة والرحم والبروستات والأمعاء، وتتحكم بالتبول والتبرز والوظيفة الجنسية. وينعكس اضطرابها سلساً بولياً أو برازياً، أو هبوطاً للأعضاء، وألماً حوضياً مزمناً واضطراباً جنسياً. وهذا توصيف إكلينيكي معتمد بدليل مؤسسة "كليفلاند كلينك"، التي تعد من أبرز المستشفيات والمراكز الطبية في العالم.
وتعتبر الإرشادات البريطانية أن التوعية والوقاية والعلاج التحفظي، أي تمارين قاع الحوض بإشراف اختصاصيي العلاج الفيزيائي الحوضي، خط العلاج الأول لكثير من اضطرابات الحوض لدى الفتيات والنساء من سن 12 سنة وما فوق.
تدفع التابوهات حول الحوض والمهبل كثيرات إلى إهمال الألم، فيتحول فرط توتر عضلات الحوض إلى حلقة مغلقة من الخوف والألم والشد. يسمي الطب هذه الصورة الاضطرابية الأوسع باضطراب الألم "الاختراق التناسلي الأنثوي" الذي يشمل ما كان يعرف بتشنج المهبل. وتؤكد مراجعات أطباء الأسرة أن خلل وظيفة عضلات الحوض عنصر محوري ويجب فحصه وعلاجه، وعدم الاكتفاء بمسكنات أو مضادات التهابات.
في الواقع لا تصح المبالغة، فعضلات الحوض لا تسبب عقماً بحد ذاتها، لكن تشنج المهبل أو فرط توتر قاع الحوض قد يخلق عائقاً وظيفياً أمام الحمل الطبيعي حتى مع خصوبة هرمونية مبيضية سليمة. لذا فالعلاج أو إعادة التأهيل جزء ضروري من خطة الوصول لحمل طبيعي لدى من يرغبن بذلك.
كانت إحدى السيدات قد عرضت مشكلتها حول التشنج المهبلي على صفحة نسائية مغلقة، مستخدمة اسماً مستعاراً كما تفعل معظم النساء حين يقترب الكلام من مساحة الجسد والحميمية. فالمواضيع من هذا النوع ليست سهلة الاعتراف، وقد يسهل كشفها حتى في أماكن يفترض أنها آمنة، لذلك تختبئ خلف هويات وهمية خوفاً من الوصمة أو الحكم أو السخرية. قالت السيدة إنها عروس جديدة، وبدأت بتناول المغنسيوم للمساعدة في ارتخاء العضلات، لكن محاولات الإدخال كانت مستحيلة على رغم كل التجارب الشعبية والحديثة ظلت تشعر أن بداخلها جداراً أصم.
ما إن نشرت تجربتها حتى انهالت الردود، لم تكن تعليقات عابرة، كانت في الواقع قصصاً كاملة، تروى بجرأة لم تكن ممكنة في العلن. فكثيرات عشن التجربة وبينهن قواسم مشتركة، من التوتر الشديد والجفاف، والمحاولات الفاشلة، ورحلات لا تحصى بين الأطباء، واستخدام كريمات ومراهم، وجلسات علاج نفسي من دون جدوى.
وفي سلسلة الردود المفصلة ظهرت حقيقة أخرى. لكل امرأة قصة، وإن لم تكن صاحبة المشكلة، فهناك من عاشتها في محيطها القريب، ابنة أو أخت أو صديقة أو قريبة. وبدا أن الجميع يتعامل مع الأمر كما لو أنه سر عائلي. إحدى المعلقات روت كيف أنقذها العلاج على مراحل، وأخرى أكدت أن الحل كان عند أخصائية ومعالجة أعطتها تمارين وتمددات، وثالثة تحدثت عن غشاء مطاطي احتاج إلى شق جراحي بسيط، ورابعة أوضحت أنها عاشت خمس سنوات من العلاقة السطحية قبل أن تنجب طفلين.
بدا المشهد كأنه خريطة واسعة لخبرات خفية، لا يجمعها سوى هذا الفضاء الرقمي المغلق، حيث تتكلم النساء أخيراً بلا خوف، ويكتشفن أن ما اعتقدنه ندرة أو عيباً هو تجربة إنسانية شائعة وبكثرة غير متوقعة، بقدر ما يصر المجتمع على إخفائها.
تخبر إحدى السيدات أنها بعد 10 سنوات من زواج هادئ، كانت تعيش سراً كبيراً لا يعرفه أحد إلا غرفة نومها، وهو أن العلاقة الجنسية لم تكتمل يوماً من دون ألم. لجأت إلى عشرات الأطباء، والتحاليل والصور والأدوية والمهدئات من دون أي تقدم. ولم يظهر أي خلل عضوي، فلجأت إلى العلاج النفسي وفهم جذور الطفولة والتربية، وكانت النتيجة ذاتها. حتى حين أرادت الإنجاب، لجأت إلى التلقيح الصناعي، وأنجبت بعملية قيصرية، إلى أن تعرفت بالصدفة على تمارين قاع الحوض، وبدأت بممارستها وحدها، ثم تعرفت على معالجة فيزيائية لا تقلل من الوجع ولا تضع المشكلة داخل خانة التوتر. بدأت التمارين الأكثر فاعلية، وتقول إنها لأول مرة منذ 10 سنوات بدأت تشعر أن جسدها يتعلم شيئاً جديداً، وأنه ليس ضدها كما كانت تظن، وقد تحسن وضعها بنسبة 80 في المئة وما زالت تتقدم.
مما لا شك فيه أن الأثر يتسلل إلى كل زاوية من حياة المرأة، ما يجعلها تشبه ثلاثية قاتلة جسدياً ونفسياً واجتماعياً.
ويترجم في الجسد على شكل ألم أثناء الجماع أو استحالة الإيلاج. هذا الألم المزمن في الحوض يمتد إلى أسفل الظهر والفخذين. وقد يتسبب باضطرابات في التبول أو التبرز. وقد يؤدي إلى توتر في العضلات المجاورة كالورك والفخذ الداخلي والبطن السفلي.
أما على الحياة الجنسية، فتشعر المرأة بفقدان الرغبة أو الخوف من العلاقة، أو شعور بالذنب أو النقص، مما يؤدي إلى توتر في العلاقة الزوجية، لأن الألم يترجم غالباً إلى رفض ونفور.
وعلى مستوى الصحة النفسية تعاني النساء شعوراً بفقد السيطرة على الجسد، وقلقاً دائماً من الألم أو الفشل، إضافة إلى إحساس بالعزلة لأن الموضوع لا يناقش.
وبحسب الجمعية الأميركية للعلاج الجنسي، فإن كثيراً من النساء يزرن أطباء أعصاب أو نفسيين قبل أن يكتشف أن السبب عضلي حوضي ويمكن علاجه بعيداً من التدخل النفسي وتناول العقاقير المهدئة.
هنا يأتي الخبر الجيد، أن عضلات الحوض لا تموت، هي فقط تنكمش لتتحاشى الألم، ويمكنها أن تتعلم الاسترخاء من جديد. وبحيث يتدخل العلاج الحديث الذي يقوم على ثلاث ركائز، الأولى هي العلاج الفيزيائي للحوض، ويشمل تمارين تمديد مثل تمارين كيغل، وتقنيات تنفس، واسترخاء، واستخدام الموسعات التدريجية. ويأتي ثانياً العلاج النفسي الجنسي بهدف فك الارتباط بين الخوف والألم عبر العلاج المعرفي السلوكي أو غيره من علاجات الصدمة. والأهم هو في النقطة الثالثة التي تتجلى بالتثقيف الجسدي والوعي، بحيث تعلم المرأة خريطة جسدها من جديد من دون خجل عبر تمارين إدراك الجسد وتمارين التنفس الحوضي.
توضح الاختصاصية في العلاج الفيزيائي الدكتورة ليال قبرصي أن عضلات قاع الحوض هي مجموعة من العضلات العميقة تمتد مثل الحمالة بين عظام الحوض، وتضم ما يقارب 13 عضلة رئيسة، ووظيفتها الأساس هي دعم الأعضاء الداخلية مثل المثانة والرحم والمستقيم، إضافة إلى المساعدة في التحكم بالتبول والتبرز، والمساهمة في الوظيفة الجنسية والاستقرار الجسدي. وتقول "هي من أهم العضلات لأنها تعمل بصمت طوال الوقت من دون أن نراها، ومع ذلك تؤثر في جودة حياتنا اليومية بصورة كبيرة جداً".
وعلى رغم التشابه في التركيبة الأساس عند الجنسين، فإن الزوايا التشريحية ووظائف بعض العضلات تختلف بحسب وجود الرحم أو البروستات، لذلك تختلف أنواع المشكلات، فعند النساء نرى ضعف العضلات بعد الولادة أو بسبب الهرمونات كبيراً، بينما عند الرجال نواجه مشكلات مرتبطة بالبروستات أو فرط التوتر بعد الجراحات.
عن الأعراض الأولى التي تشير إلى أن هناك مشكلات في هذه العضلات، تلفت ليال إلى أنه في حالات الضعف، نلاحظ تسرب بول عند السعال أو الضحك، وشعور بثقل أسفل الحوض، أو ضعف الإحساس أثناء العلاقة بين الزوجين. أما في حالات التشنج، فالأعراض تكون في صورة ألم أثناء الجلوس أو العلاقة، أو صعوبة في التبول والتبرز. والأسباب متعددة، منها الحمل والولادة، أو الإمساك المزمن، أو الجراحات، أو حتى الجلوس الطويل. أما من الناحية النفسية فالتوتر والخوف، أو التجارب الصادمة قد تؤدي إلى تشنج عضلي مزمن، لكنها أيضاً قد تكون نفسية، نابعة من تجربة سلبية أو خوف، أو تربية صارمة، أو ضغط اجتماعي زرع في الذاكرة فكرة الألم والرهبة. أما من الناحية الاجتماعية، فالثقافة تؤدي دوراً كبيراً، إذ ما زال كثيرون يخجلون من مناقشة هذه المواضيع أو طلب المساعدة، مما يؤخر التشخيص والعلاج.
وتضيف أن كثيراً من النساء يربطن مشكلات الحوض بالولادة فقط، وهذا مفهوم شائع، لكنه غير دقيق. فالولادة عامل مهم، لكنها ليست السبب الوحيد، إذ نرى حالات عند الشابات غير المتزوجات بسبب التوتر المزمن أو الإمساك، وعند الرياضيات بسبب الضغط المفرط على العضلات، وكذلك عند الرجال بعد عمليات البروستات أو بسبب التشنج المزمن.
تكشف ليال عن أنها في الجلسة الأولى مع مرضاها تقوم بجلسة استماع وتقييم شامل للتاريخ الطبي والعادات اليومية والعوامل النفسية، "ثم أقوم بفحص دقيق لعضلات الحوض بطريقة مهنية تراعي الخصوصية التامة. ويشمل التقييم التوتر العضلي والقوة والإحساس وطريقة التنفس". وتوضح "في البداية معظم الناس يربطون العلاج بالقوة فقط، لكنني أوضح أن العضلة المشدودة تحتاج إلى راحة قبل أن نستطيع تقويتها. فأشرح بأسلوب مبسط أن التحكم يبدأ من الوعي، وأن الاسترخاء جزء من العلاج. وعلى رغم الخجل الذي يكون سيد الموقف في البداية، لكن مع الثقة والتوضيح، يتحول الخوف إلى تعاون وفضول إيجابي".
تعتبر الاختصاصية في العلاج الفيزيائي أن العلاج الفيزيائي هو حجر الزاوية، وتعتمد "خطة تدريجية تهدف إلى تعليم الجسم كيف يهدئ خوفه العضلي. ويبدأ المسار بتمارين التنفس العميق، التي تفتح الطريق أمام عضلات الحوض للارتخاء، ثم تمارين التمدد والتحكم، وصولاً إلى استخدام الموسعات المهبلية بالتدريج لتغيير الذاكرة العصبية المرتبطة بالألم". وتؤكد أن هذا التشنج لا يؤذي المرأة وحدها، بل يضع العلاقة الزوجية في دائرة التوتر المتكرر، حتى بين الشركاء المتفاهمين. والدعم هنا ليس مجاملة، إنما جزء من العلاج نفسه.
وتختم برسالة للسيدات اللواتي يعانين هذا التشنج "أنتِ لستِ وحدكِ. أعداد النساء المصابات أكثر بكثير مما يظن، والعلاج موجود وفعال، والشفاء حقيقي. والصمت ليس بطولة، والألم لا يجب أن يختبر وحده... الثقة والراحة الممكنة، تبدأ بخطوة صغيرة، اسمها طلب المساعدة".
في مجتمع يسيطر على جسد المرأة ويلبسه أثواب الخطيئة، ينكمش الجسد على ذاته تفادياً لأية وصمة، ويحمل في ذاكرته شعار الممنوع ولا يستطيع إزالته حتى بعد الزواج.
هكذا نجد أن تلك العضلات التي اعتبرتها المجتمعات أقل شأناً أو سجينة خلف الكواليس، هي في الواقع بوابة العافية أو منحدر المرض. إن تجاهلها ليس خياراً بريئاً، إنما باب مفتوح لمشكلات قد تبدو بعيدة