ليلى مراد... حلاوة الفن ومرارته
تحل الذكرى الـ 30 لرحيل ليلى مراد إحدى أهم نجمات السينما والغناء في مصر ورغم اعتزالها في أوج تألقها منتصف الخمسينيات فإن أعمالها لا تزال حاضرة في أذهان الجمهور وعلامات في عالم الفن، فضلاً عن حياتها التي أثير كثير من الجدل حولها
في حقبة كانت مصر تضم أطيافاً متنوّعة من الأديان والثقافات والجاليات الأجنبية المختلفة، إلى جانب حراك فني وسياسي كبير في النصف الأول من القرن العشرين، ولدت ليلى مراد في الـ 17 من فبراير (شباط) عام 1918 في حي الظاهر بالقاهرة لأسرة يهودية، فوالدها هو الملحن زكي مراد، وهو موسيقي شهير في هذا الزمن.
عاشت ليلى وتلقت تعليمها في إحدى مدارس الراهبات بالقاهرة، وبدأت موهبتها في الظهور في سن مبكرة، حتى أصبحت واحدة من أهم مطربات النصف الأول من القرن العشرين، قدمت مراد على مدار مسيرتها التي استمرت نحو 20 عاماً أكثر من 1000 أغنية، و28 فيلماً، وكانت أول فنانة تنتج أفلاماً باسمها في السينما، وحققت نجاحاً طاغياً في الغناء والتمثيل على السواء، باعتبارها تميّزت في الفيلم الغنائي، الذي كان شائعاً خلال هذه الحقبة.
من المفارقات أن ليلى مراد اعتزلت الفن في أوج تألقها في عام 1955، لأسباب غير محسومة، وكانت وقتها تجاوزت الـ 35 سنة بقليل، وكان يمكن أن يمتد عطاؤها الفني سنوات كثيرة، غير أنها فضّلت الابتعاد وعاشت 40 عاماً في هدوء بمنزلها بالقاهرة، حتى رحلت في عام 1995 عن عمر يناهز 77 سنة، وعلى رغم ذلك بقيت أعمالها حاضرة، وظل الجمهور يتذكرها، باعتبارها علامة مضيئة في الفن المصري.
يقول المؤرخ الفني محمد شوقي، "ليلى مراد كانت أول نجمة شباك في تاريخ السينما العربية، فمع عرض أول أفلامها كانت السينما الناطقة مرّ عليها 10 سنوات فقط، وبدأت التجارب السينمائية تصبح أكثر نضوجاً، وفيلم وراء الآخر حققت نجاحاً طاغياً، وكانت تحصل على أعلى أجر في هذا الوقت، فمع منتصف الأربعينيات كان أجرها 15 ألف جنيه مصري، وهو رقم كبير جداً بمعايير هذا الزمن، فهو يعادل 10 أضعاف أجور النجمات حينها، وهي أول فنانة في تاريخ السينما في العالم كله تنتج لها سلسلة أفلام باسمها، فهي أيقونة من أيقونات الفن المصري والزمن الجميل".
نشأت ليلى مراد في وسط عائلة كبيرة بها 9 أبناء وسط بيت مفعم بالفن، فوالدها الملحن الشهير الذي يستضيف نخبة فناني العصر ليخرج من هذا البيت ليلى التي احترفت الغناء، ومنير الذي اتجه للتلحين، وحقق شهرة كبيرة غير أنه لم يلحن لليلى غير 3 أغنيات طوال مسيرتها الفنية، وسميحة التي كانت لها تجارب محدودة في عالم الغناء، ومثّلت فيلماً واحداً بعنوان "طيش الشباب" عام 1951، لكنها لم تستمر وهاجرت للخارج، وقد تفاوتت الأحوال المادية للأسرة بين الرخاء والتعثر الذي كان أحد الأسباب القوية لدفع ليلى مراد للغناء، باعتبار أن ذلك سيساعد على إعالة الأسرة الكبيرة.
ذكر صالح مرسي، في كتابه بعنوان "ليلى مراد" فترة نشأتها وطفولتها قائلاً "كانت طفلة في بيت يسهر فيه كل ليلة مجموعة من شباب الفن: رياض السنباطي، والقصبجي، وسيد شطا، وداوود حسني، وزكريا أحمد، وفي بعض الأحيان كان يأتي معشوقها وحلم أحلامها جميعاً مطرب شاب خلب الألباب هو محمد عبد الوهاب".
كان محمد عبد الوهاب في هذا الوقت نجم الشباب وفتى أحلام الفتيات، حتى إنه عندما أراد والدها أن يقنعها بالغناء أتى بمحمد عبد الوهاب لمنزلهم، وطلب منه أن يستمع إلى صوت ابنته الصغيرة، وبالفعل ذهب بصحبة صاحب شركة أسطوانات "بيضافون" في هذا الوقت التي كان لها شأن عظيم، وانبهر الاثنان بصوت الفتاة الصغيرة التي غنّت ببراعة، وتلقت بعدها تدريباً مكثفاً لإعدادها لأول حفل تقدم فيه للجمهور.
ويذكر مرسي في كتابه أنه في هذا الزمن لم تكن الميكروفونات عرفت طريقها للمسارح، وكانت عظمة المطرب أو المطربة تتجلّى كلما اتسع المسرح أو السرادق، وامتلأ بمئات من الناس فإذا ما وصل الصوت على رغم الاتساع والازدحام إلى كل أذن كان هذا دليل النجاح، الذي لا يناقش، وهو ما نجحت فيه الفتاة الصغيرة ليلى مراد آنذاك.
وبعد النجاح الساحق لحفلها طافت تحيي الحفلات والأفراح في كل أنحاء البلاد، وذاع صيتها، حتى إن المقتدرين وعلية القوم كانوا من يطلب أن تحيي ليلى مراد حفلاتهم وأفراحهم، واستمرت على هذا الوضع نحو 5 سنوات خلالها زادت خبرتها واشتد عودها، وبدأت الإذاعة المصرية في عام 1934 واتجهت ليلى مراد للغناء فيها، وكان عمرها في هذا الوقت نحو 16 سنة، ويذكر أنها دخلت استوديو الإذاعة لتسجيل أغنيتها في وقت كانت أم كلثوم تستعد للغناء، وكانت الفتاة الصغيرة ترتجف من الغناء أمام أم كلثوم التي شدت على يديها وشجعتها، وأشادت بصوتها بعدما انتهت من الغناء.
يشير المؤرخ الفني محمد شوقي إلى أنه "بعد نجاحها في الإذاعة جاءت الخطوة اللاحقة، وهي السينما فكان الفيلم الأول بعنوان الضحايا عام 1936 كانت تغني فيه فقط، ثم قدّمها عبد الوهاب في فيلم "يحيا الحب" عام 1938 كبطلة أمامه، وحقق الفيلم نجاحاً ساحقاً، وإذا كان محمد عبد الوهاب هو من قدمها للجمهور فإن المنتج توجو مزراحي هو من صنع نجوميتها فأنتج لها مجموعة من الأفلام بدأت بـ"ليلة ممطرة" عام 1939، ثم مجموعة الأفلام التي حملت اسمها لتصبح ليلى مراد أهم نجمات فترة الأربعينيات بلا منازع".
وقد كتب عنها محمد عبد الوهاب في عدد مجلة "الكواكب" الصادر في فبراير (شباط) عام 1949 "كثيراً ما يختلط الأمر على المستمع في التفرقة بين أصوات غالبية المطربات لقرب التشابه بينهما جميعاً، لكن من السهل عليه معرفة وتمييز صوت المطربة ليلى مراد بمجرد الاستماع إليها لأول وهلة، فهو صوت ذو لون خاص، وذو طابع لا نظير له، مما يجعل لها شخصية فنية مستقلة".
في الـ 17 من يوليو (تموز) عام 1945 كان يوم التصوير الأخير لفيلم "ليلى بنت الفقراء"، وكان المشهد الأخير هو حفل زفاف البطلة على بطل الفيلم ومخرجه أنور وجدي، وكانت ليلى مراد تغني أغنيتها الشهيرة "احنا الاتنين والعين في العين". غير أن هذا المشهد لم يكن فقط مشهداً تمثيلياً ضمن سياق أحداث الفيلم، لكنه كان حفل زفاف حقيقياً لليلي مراد وأنور وجدي الذي دعا الصحافة وكثيراً من الفنانين لحضور يوم التصوير الأخير للفيلم. أحدث هذا الخبر ضجة كبيرة في المجتمع، ومثّل دعاية غير مسبوقة للفيلم، امتد الزواج إلى نحو 8 سنوات شهد خلالها عدة أزمات، كذلك شهد نجاحات فنية كبيرة للثنائي حتى انتهى بالانفصال في عام 1952.
ووفق رؤية شوقي "كثير من الأقاويل ترددت عن أن أنور وجدي حاول استغلال ليلى مراد في أعماله، ولم يكن سخياً إنتاجياً في الأفلام التي يقدمها فيها، غير أن كل هذا غير صحيح، فأنور وجدي من أفضل منتجي عصره، وسخاء الإنتاج واضح في الأفلام، ويظهر في التترات تعامله مع أكبر موردي الأثاث وأفضل صناع المجوهرات وأكبر بيوت الأزياء، حتى إن ليلى مراد ارتدت في فيلم "حبيب الروح" عام 1951 فستاناً صممته خصيصاً لها دار الأزياء العالمية كوكو شانيل تكلف مبلغاً ضخماً، كذلك أنتج لها مجموعة من أشهر أفلامها من بينها فيلم "غزل البنات" الذي يعد من أهم أفلام السينما المصرية".
في عام 1952 انتشرت إشاعة صادرة عن جريدة سورية بأن ليلى مراد زارت إسرائيل، وتبرّعت لها بـ 50 ألف جنيه، وبناء على ذلك فإن الحكومة السورية قررت منع إذاعة أفلامها وأغانيها، انتشرت الإشاعة انتشار النار في الهشيم وقتها على رغم أن ليلى مراد كانت قد أشهرت إسلامها في عام 1947 في مشيخة الأزهر في الوقت الذي كانت متزوجة فيه من أنور وجدي، ولم يحمها هذا من إشاعات عديدة طاولتها مع أحداث النكبة في عام 1948، وتصاعد الأحداث السياسية إضافة إلى الموقف من اليهود المقيمين في مصر، إذ اتهمت بأنها تدعم إسرائيل وتتبرع لها بالأموال باعتبار أصولها اليهودية، إلا أنها نفت هذا الأمر بشكل قاطع وسعت بكل السبل لنفي هذه التهم عنها.
ادّعى البعض أن أنور وجدي زوجها السابق كان هو مصدر هذه الإشاعة كشكل من أشكال الانتقام منها، وأن دعمها لإسرائيل كان هو سبب الانفصال، فوفق ما ذكرته الكاتبة الصحافية سناء البيسي في مقال بعدد خاص عن ليلى مراد في مجلة "نصف الدنيا" عام 2003 قالت "أشاع أنور وجدي أنها تبرعت بـ 50 ألف جنيه للجمعيات الخيرية الإسرائيلية، لكن الطعنة امتدت إليه، لأنه عندما صدر قرار بإيقاف أفلامها كانت هي نفسها أفلامه التي أنتجها فخسر الكثير في السوق العربية".
لكنه من الثابت أن أنور وجدي مع انتشار الإشاعة في عام 1952 بعد شهور قليلة على قيام ثورة يوليو (تموز) سارع بنشر بيان صحافي في معظم الصحف والمجلات حينها ينفي عن نفسه وعن ليلى مراد هذه التهم قائلاً "أقر أنا أنور وجدي وأعترف بأن طلاقي من السيدة ليلى هانم مراد لم يكن بسبب خلاف ديني، لأنها مسلمة وموحدة بالله منذ سنوات، وكذلك لم يكن بسبب خلاف سياسي أو ميول وطنية، لأن السيدة ليلى مراد لم تكن في يوم من الأيام لها لون سياسي خاص أو ميول من أي نوع".
لم تنته الأزمة إلا بعد تحركات عدة من جهات مختلفة انتهت بإصدار الشؤون المعنوية التابعة للجيش المصري بياناً أفادت فيه بأنه بعد التحريات لم يثبت نهائياً أن ليلى مراد قد زارت إسرائيل أو تبرّعت بأي أموال لها.
في عام 1955 عرض آخر فيلم لليلى مراد، وهو فيلم "الحبيب المجهول"، وحقق نجاحاً كبيراً، وبشكل مفاجئ ومن دون أي مقدمات أعلنت اعتزالها في العام نفسه، على رغم أنها كانت في أوج تألقها ونجاحها أثار هذا عديداً من التكهنات حول السبب الحقيقي الذي دفعها للاعتزال، فما جرى إعلانه هو أنها فضّلت أن تتوارى عن الأنظار في أوج نجوميتها وجمالها حتى يظل الجمهور متذكرها بهذه الصورة وفي هذه الهيئة قبل أن يتقدم بها العمر.
غير أن هناك افتراضات أخرى في هذا الشأن مثل ما طرحه الكاتب والناقد أشرف غريب في كتابه "الوثائق الخاصة لليلى مراد"، إذ أشار إلى افتراض آخر مفاده بأنها أجبرت على الاعتزال، إذ جاء في الكتاب أن عام 1956 كان جمال عبد الناصر أصبح هو الزعيم الأوحد، الذي لا ينازعه أحد على السلطة، وأنه منذ هذا العام وضع كل من لم يدعمه خلف ظهره، وأن ليلى مراد لم تقرأ المشهد السياسي جيداً في هذه الفترة المضطربة من عمر الثورة، وأظهرت ولاءها علانية للرئيس محمد نجيب، حتى إنها لجأت إليه في خضم أزمتها مع إسرائيل، هذا بعكس فنانين آخرين قرأوا المشهد جيداً من البداية، وأدركوا أن عبد الناصر هو الحصان الرابح مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب".
وفق رؤية الكاتب أشرف غريب، التي جاءت في الكتاب بخصوص الاعتزال المفاجئ لليلى مراد، "لم يقل لها أحد صراحة اعتزلي والزمي بيتك، لكن جرى تضييق الخناق عليها، وتعطيل أي محاولة من جانبها للعودة حتى مرت السنون وتقدم بها العمر، وأدركت أن الزمان لم يعد زمانها".
غير أن المؤرخ الفني محمد شوقي يختلف مع الروية قائلاً "لا أتصور أن هناك سبباً يدعو إلى إجبار ليلى مراد على الاعتزال، لكن أتصوّر أن هناك عدة أسباب كانت السبب في اعتزالها أولها تفرغها لفترة بعد عام 1955 لرعاية طفليها، إذ إنها تزوّجت لاحقاً بعد انفصالها عن أنور وجدي من وجيه أباظة، الذي كان ضابطاً من الضباط الأحرار، وأنجبت ابنها أشرف، ثم انفصلت عنه، وتزوّجت من المخرج فطين عبد الوهاب وأنجبت ابنها الثاني زكي، وعندما رغبت في العودة إلى الفن مرة أخرى كان المشهد السينمائي تغير بالكامل بظهور نجمات جديدات تربعن على القمة، مثل شادية وفاتن حمامة، فكن بلا منازع هن نجمات عقد الخمسينيات، وظهر نجوم جدد من الرجال من أمثال شكري سرحان، وكمال الشناوي، وغيرهما كانوا في مرحلة عمرية أقل من ليلى مراد".
ويضيف شوقي، "في هذا الزمن كانت النجمات بنهاية مرحلة الثلاثينيات يتجهن إلى أدوار الأم مثل مريم فخر الدين عندما جسدت دور أم سعاد حسني في فيلم "بئر الحرمان"، وكان عمرها 37 سنة فقط، فوجدت ليلى مراد أنها إن عادت لن تقدم في دور البطلة بالصورة التي اعتادتها في أفلام سابقة، ولهذا السبب كان المنتجون والمخرجون يشعرون بحرج شديد منها، وقد عرض عليها بالفعل فيلم بعنوان "اتركني لولدي" عن قصة لإحسان عبد القدوس، وكانت ستقوم فيه بدور أم لابن مراهق تحب شاباً أصغر منها، كان المرشح له عبد الحليم حافظ، ولم تقم بهذا الدور، وقد عرض لاحقاً على فاتن حمامة ورفضته هي الأخرى ولم ينفذ الفيلم، ومما يدلل على أنها لم تجبر على الاعتزال هو أنها اعتزلت السينما، ولم تعتزل الغناء، وظلت تقدم أغنياتها في الإذاعة، وغنّت من ألحان كثير من الملحنين، من بينهم حلمي بكر، الذي بدأ مشواره في التلحين فعلياً بعد اعتزالها في الخمسينيات".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان من عادة ليلى مراد أن تكتب بعض المقالات من حين إلى آخر في مجلة "الكواكب"، وفي عام 1954 نشر لها المقال التالي حيث قالت "أنا ابنة الحظين: الحظ الباسم والحظ العاثر. الحظ الضاحك والحظ العابس، دارت بي عجلة الحياة في غير الدورة التي كنت أمني النفس بها، دارت بي متخذه وجهة غير التي كنت أريدها، قال الناس عني مطربة ذات صوت شجي أخاذ، وقال الناس محظوظة ذات طالع سعد نادر، وأقول عن نفسي أنا ليلى مراد التي تعذبت في حياتها الماضية، وتتعذب في حياتها الحالية، وسوف يطاردها العذاب في حياتها الآتية، كنت لا أريد أن أكون مغنية ولا ممثلة، وكنت أمني نفسي بأن أكون مدرسة أو زوجة كبقية الزوجات السعيدات".
واستكملت ليلى مراد المقال موضحة أن الظروف دفعتها إلى احتراف الغناء لإعالة الأسرة التي تعثرت مادياً مما أثر في حياتها الشخصية، وأنها نجحت في عالم الفن، لكنها عانت كثيراً في حياتها التي دفعها القدر إليها لتصبح واحدة من أهم نجمات الغناء والسينما على السواء.