ماذا يفعل الذكاء الاصطناعي بأدمغتنا وطريقة تفكيرنا؟

المصدر : INDEPENDENT | الخميس , 27 تشرين الثاني | : 72

توسّع اعتماد الطلاب على الذكاء الاصطناعي يُضعف مهارات التعلّم تدريجياً، إذ تُظهر التجارب تراجع نشاط الدماغ والقدرة على التذكر عند استخدام أدوات مثل "تشات جي بي تي". ومع أن الجامعات، ومنها أكسفورد، تتبنى هذه الأدوات رسمياً، يتزايد القلق من أن يُصبح الذكاء الاصطناعي بديلاً عن التفكير لا مساعداً له، بما يستدعي "تربية ذهنية" جديدة تحمي القدرات المعرفية.

الجميع يغش، وفي وقت باكر من العام الحالي أظهرت أبحاث أن الغش يكاد يُطاول كل الطلاب الذين باتوا يعتمدون على أدوات الذكاء الاصطناعي مثل تطبيق "تشات جي بي تي" في أعمالهم، وأفاد 88 في المئة من الطلاب الذين اُستطلعت آراؤهم أنهم استعملوا "تشات جي بي تي" في وظائفهم، ويشكل الرقم السابق ارتفاعاً لافتاً بالمقارنة مع العام الماضي حينما بلغ ذلك المعدل نحو 53 في المئة (سُجلت أرقام مماثلة في الولايات المتحدة).

وبحسب الشهادات والانطباعات المتداولة فإن العدد الهائل ممن يستخدمون الذكاء الاصطناعي في عملهم يتحول إلى نوع من الذريعة التي تبرر نفسها، بمعنى أنه إذا كان الجميع يغش فلم لا تفعل ذلك؟ ومع أن الدراسات تظهر أن الذكاء الاصطناعي يجعلك تقلل بصورة كبيرة من التفكير وبصورة أضعف، فإن الأدلة العلمية لا تزال محدودة، ففي وقت سابق من هذا العام قام باحثون بتوزيع مشاركين إلى ثلاث مجموعات وطلبوا منهم كتابة مقالة، وأُتيح لبعضهم استخدام نموذج لغوي كبير على غرار "تشات جي بي تي"، فيما سُمح لآخرين باستخدام "غوغل" فقط، بينما لم يُمنح الفريق الثالث أية مساعدة خارجية، ثم باشر الباحثون درس أداء المجموعات الثلاث بطرق عدة.

أثناء الكتابة كانت أدمغة المشاركين تعمل بصورة مختلفة، فكلما حصل المشاركون على قدر أكبر من المساعدة تراجعت درجة نشاط بعض أجزاء الدماغ، والذين تلقوا مساعدة من الذكاء الاصطناعي كانوا أقل قدرة على استحضار ما كتبوه في مقالاتهم، لكن الباحثين شددوا على أن هذه النتائج لا تزال أولية ومحدودة نسبياً، محذرين صراحة من استخدامها للزعم بأن الذكاء الاصطناعي يجعل الناس أقل ذكاء، لكن الدراسة تُلمح في الحد الأدنى إلى "الحاجة الملحة لاستكشاف احتمال تراجع مهارات التعلم" الناتج من استخدام النماذج اللغوية الكبيرة في التعليم.

لآلاف الأعوام عبّر المفكرون عن خشيتهم من أن تضعف التكنولوجيا الذاكرة والفهم، وكانت الكتابة ذاتها أول تلك التقنيات، ففي حوار "فيدروس" يحذر سقراط من أن الكلمة المكتوبة قد تُقوض الذاكرة، وأن النص قد يجعل الناس يبدون كأنهم يملكون معرفة من دون أن تكون لديهم فعلياً، وقد جعلت الحواسيب تلك المخاوف أكثر إلحاحاً، ففي ورقة بحثية نشرت عام 2011 حدد الباحثون ما يُعرف بـ "تأثير غوغل"، وهو أن توافر المعلومات بسهولة تحت أيدينا يجعل حضورها أضعف داخل أذهاننا، وحتى قبل 15 عاماً وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يُطلب منهم استدعاء معلومات ما كانوا يميلون تلقائياً إلى التفكير بالحواسيب، وأن توقعهم أن تلك المعلومات متاحة بسهولة جعلهم أقل ميلاً إلى تذكرها فعلياً، وكتب الباحثون آنذاك "لقد أصبحت الإنترنت شكلاً أساسياً من الذاكرة الخارجية أو الذاكرة التبادلية، حيث تخزن المعلومات جماعياً خارج ذواتنا".

ومن أكبر المخاوف المرتبطة بتأثير الذكاء الاصطناعي في التعليم أنه لا يبدو لنا أنه يحد من قدراتنا الذهنية، إذ يُخيل إلينا أننا نتعلم، وفي مقالة نُشرت الصيف الماضي أشار الباحث في نظم المعلومات آرون فرنش إلى أن التحدث مع الذكاء الاصطناعي "يمكن أن ينفخ إحساس المرء بذكائه على نحو مصطنع، بينما يقلل في الواقع من الجهد المعرفي المبذول"، واستشهد بتأثير دانينغ كروغر الذي يفيد بأن امتلاك قدر قليل من المعرفة قد يكون أمراً خطراً، لأن الشخص يشعر بأنه مُلم بالمعلومات من دون أن يكون لديه ما يكفي ليدرك حجم ما يجهله، وحذر من أن سوء استعمال الذكاء الاصطناعي قد يترك الناس عالقين في تلك الذروة الخطرة من الثقة الزائدة، والتي يصفها الباحثون بـ "قمة جبل الغباء".

أواخر الشهر الماضي أشارت أناستاسيا بيرغ التي تدرّس الفلسفة في جامعة كاليفورنيا - إرفاين إلى أن كثيرين يرون فرقاً بين "الاستخدامات غير المشروعة للذكاء الاصطناعي"، مثل كتابة المقالة كاملة، وبين "الوظائف المساعدة البريئة" مثل مساعدته في إعداد مخطط المقالة، لكنها لفتت إلى أن اختيار موضوع الكتابة مهارة لا يمكن الاستغناء عنها، وكتبت "لا يوجد أي جانب من الفهم المعرفي يمكن اعتباره إجراء شكلياً".

ومع ذلك فإن الذكاء الاصطناعي يشق طريقه إلى الجامعات، سواء أراد القائمون عليها ذلك أم لا، ففي وقت سابق من هذا العام أصبحت "جامعة أكسفورد" واحدة من جامعات عدة تبرم اتفاقاً رسمياً مع شركة "أوبن إيه آي" مطورة "تشات جي بي تي"، وذلك بعد ما وصفته بـ "عام تجريبي ناجح"، ويحصل الطلاب بموجب الاتفاق على نسخة خاصة من "تشات جي بي تي" توفر حماية للبيانات وتضم ضمانات إضافية، فيما تستفيد "أوبن إيه آي" من الإيحاء بأن الذكاء الاصطناعي بات أكثر مركزية في عملية التعلم، وقد دار جزء كبير من النقاش حول تبني "أكسفورد" الذكاء الاصطناعي صراحة في سياق أن طلابها سبق أن تبنوه فعلياً، فالمسألة ليست بين كتابة المقالات بـ "تشات جي بي تي" أو من دونه، بل بين أن تعترف الجامعة بذلك رسمياً أو لا. وقالت نائب رئيس "جامعة أكسفورد" لشؤون التحول الرقمي آن تريفثن عند الإعلان عن المشروع، "نحن نعلم أن أعداداً كبيرة من أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب يستخدمون بالفعل أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي"، وقد اكتسب استخدام الذكاء الاصطناعي قوة دفع ذاتية، ويرى كثير من الأكاديميين أنه من الأفضل تعليم الطلاب كيفية استخدامه على نحو جيد بدلاً من تعليمهم من دون استخدامه، فيما ذكرت نائب رئيس "جامعة أكسفورد" لشؤون التعليم فريا جونستون أن "إتاحة الوصول إلى النسخة الجامعية من 'تشات جي بي تي' ChatGPT Edu على مستوى الجامعة سيدعم تطوير مهارات أكاديمية رصينة ومهارات محو الأمية الرقمية، إذ نُعد خريجينا للنجاح والريادة في عالم معزز بالذكاء الاصطناعي"، مضيفة أن "الذكاء الاصطناعي التوليدي يساعدنا أيضاً في استكشاف أساليب جديدة للتفاعل مع الطلاب، إضافة إلى نموذجنا التعليمي الشهير القائم على التدريس المباشر والإشراف الأكاديمي الذي يولي أهمية للتفكير النقدي والتحليل السياقي [فهم فكرة أو نص أو حدث ما من خلال الظروف المحيطة به وليس بمعزل عنها]".

ولا تحظر القواعد الخاصة بـ "جامعة أكسفورد" استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في البحث العلمي، لكنها تشترط أن يظل المستخدمون "مسؤولين في نهاية المطاف عن المحتوى المنتج باستخدامه".

وتؤكد القواعد ضرورة أن يحافظ الباحثون على "وعي بما تنطوي عليه هذه الأدوات من محدوديات، مثل الهلوسات أو التحيزات الاجتماعية المضمنة في بيانات التدريب، والتي قد تفضي إلى إعادة إنتاج صور مغلوطة عن الفئات الاجتماعية أو الفئات المشمولة بحماية قانونية من التمييز أو الوقائع التاريخية"، فضلاً عن مطالبتهم بالإحاطة بالأخطار الأخرى والالتزام بالشفافية في الإفصاح عن استخدامهم لهذه الأدوات.

وتتبنى كثير من الجامعات قواعد مشابهة، ففي وقت سابق من هذا العام نشرت مجلة "نيويورك" تقريراً حمل عنوان "الجميع يتجاوزون دراستهم الجامعية بالغش"، ذكرت فيه أن هذه التكنولوجيا "فككت المشروع الأكاديمي بأكمله"، وعرض التقرير حال طالب في "جامعة كولومبيا" كان ينتهك قواعد الجامعة بثقة ومن دون أي اكتراث، على رغم أنها تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي من دون إذن مسبق، وأشارت المجلة أيضاً إلى أن "كولومبيا" بدورها ترتبط بشراكة مع شركة "أوبن إيه آي".

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي عالم بات فيه الذكاء الاصطناعي جزءاً من التعليم الجامعي، قد يضطر الطلاب إلى التعلم بطرق مختلفة، وربما يشمل ذلك تعلم كيفية التعامل مع الذكاء الاصطناعي ذاته، وقد حذرت الأستاذة المشاركة في الإنسانيات الرقمية بكلية لندن الجامعية UCL، كايتلين ريغير، من أن توسع استخدام الذكاء الاصطناعي يجب أن يواكبه نوع محدد من التعليم يوضح "إلى أي مدى يمكن اعتبار تفكيرنا، أو بالأحرى تطوير هذا التفكير، أمراً مقبولاً تفويضه إلى أدوات خارجية"، وتساءلت خلال فعالية نُظمت في وقت سابق من هذا العام "ما المسؤوليات التي ينبغي تعديلها أو تعزيزها عبر النظام التعليمي والتربية من أجل دعم الشباب؟".

ومن شأن ذلك أن يترجم إلى مشروع مماثل لفصول التربية البدنية في المدارس، وبحسب ريغير فإنه "مع تصاعد استخدام السيارة والمهن التي لا تتطلب جهداً جسدياً، ظهر ازدهار كبير في أبحاث الصحة البدنية، ولأن التكنولوجيا أصبحت تتحمل عنا جزءاً كبيراً من الحركة فقد اضطررنا إلى إيجاد طرق لتعويض ذلك بالحركة المصطنعة".  

وأضافت ريغير "شهدنا نشوء ثقافة النوادي الرياضية وظهور حصص التربية البدنية لأن الناس توقفوا عن الحركة بعدما بدأت التكنولوجيا تتحرك بدلاً منهم، والتشبيه المفيد الذي أقدمه للآباء هو أن نتصور صالة رياضية لعصر الذكاء الاصطناعي، صالة تنمي المهارات الاجتماعية والعاطفية، حصة تربية بدنية اجتماعية وعاطفية، فما الذي نحتاج إلى تعويضه أو تدعيمه اليوم إذا كان الذكاء الاصطناعي يتولى أداء مهمات أكثر فأكثر، ولم يعد الأطفال مضطرين إلى تحريك عقولهم؟

© The Independent