"ذا دبلومات"... حينما تتحول قصص السياسة إلى أكشن

المصدر : INDEPENDENT | الخميس , 05 كانون الأول | : 430

دراما مسلسل "ذا دبلومات" كانت أكثر تماسكاً خلال الموسم الأول، بينما جاء الموسم الثاني بمفاجآت ومبالغات لا تنتمي لعالم السياسة والدبلوماسية وإنما تليق بعالم الـ "آكشن"، وكأن فريق السفارات الأميركية في البلدان الحليفة مثل المملكة المتحدة يتحولون إلى أبطال خارقين، وكذلك منح المتابع الأميركي أسباباً إضافية لعدم الثقة في القياديات النسائية، وهي الفكرة المسيطرة على الثقافة الشعبية في البلاد والتي ظهرت نتيجتها واضحة خلال الانتخابات بعد هزيمة كامالا هاريس التاريخية من دونالد ترمب

عادت السفيرة الأميركية لدى المملكة المتحدة كيت وايلر لعالم المغامرات من جديد، لا عبر عالم الدبلوماسية أو الرصانة أو البروتوكولات الصارمة، وإنما عبر التشويق والإثارة والمخاطرة في ما يشبه مناخاً يليق بدراما الـ "آكشن" والأبطال الخارقين لا بمسلسل درامي سياسي رزين، انطلق موسمه الثاني على "نتفليكس" قبل أسابيع قليلة، فـ "TheDiplomat" الذي يترجم عادة إلى "هيئة دبلوماسية" يستكمل ببراعة طريقته المفضلة لجذب المشاهدين وجعلهم يلهثون وراء كل لقطة.

وعلى مدى ثماني حلقات تابع الجمهور أحداثاً مشوقة تدور حول كيت وايلر التي قدمت دورها كيري راسل، وهي شخصية محورية في مجالها قبلت على مضض منصب سفيرة الولايات المتحدة الأميركية لدى المملكة المتحدة، إذ جاء بها إلى المنصب تفجير ضخم يشتبه في أنه عملية إرهابية من تدبير الروس أو الإيرانيين، وهي تبذل جهدها لتنفي تلك الشكوك وتكشف الحقيقة، وحينما تنجح لا تجد ما يسرها أبداً، إذ إن العقل المدبر للجريمة كان من قلب البيت الأبيض.

وانتهى الموسم الأول أيضاً بتفجير مرعب في وسط لندن راح ضحيته عناصر من فريقها وكاد يودي بحياة زوجها هال وايلر (روفوس سيويل) كذلك، لكن في الحلقة السادسة والأخيرة من الموسم الثاني ترفع التوقعات إلى ما هو أعنف من التفجير بحدث يقلب عالم السياسة والاقتصاد والدبلوماسية، وهي بشكل أو بآخر تتورط فيه على أكثر من مستوى، لكنها مع ذلك تقترب أكثر وأكثر من تحقيق هدفها الجديد بأن تصبح نائبة رئيس الولايات المتحدة، أو بمعنى أدق نائبة الرئيسة التي أصبحت بدورها قائدة البيت الأبيض بالصدفة، من دون أن تحظى بالجدارة أو القبول الشعبي.

يبدو العمل وكأنه يروج نموذجاً نسائياً ناجحاً وغير تقليدي في لعبة السياسة، إذ يقدم المسلسل للمشاهدين منذ انطلاقه عناوين جذابة عن سعادة السفيرة العمليّة المجتهدة التي تعشق الجد والاجتهاد وتقفز على كل الأزمات، لكن هذه المهارات مع توالي حلقات الموسم الثاني يتضح أنها لا تليق بالمنصب الدبلوماسي، فالصرامة واللياقة والمهنية إيجابيات لم نشاهدها إلا قليلاً، بينما كان للنزق حضور طاغ وللتردد بطولة مطلقة، إذ اختارت راسل تقديم الدور من أحد أكثر أبواب التمثيل استسهالاً، ولا سيما في الموسم الثاني، إذ كان التجهم في وجه الجميع بلا سبب هو علامتها المميزة وكأنها تفهم الجدية بصورة خاطئة، مما أوصل الأمر إلى الكاريكاتورية البعيدة كل البعد من المنطق والواقع في أوقات كثيرة.

جرائم نسائية في عالم السياسة

في حين أن المسلسل يبدو ظاهرياً تمجيداً لمؤهلات النساء ومكانتهن في مجال السياسة الدولية وتميزهن في التعامل مع تعقيدات المناصب القيادية من خلال تقديم أكثر من نموذج نسائي يتمتع بقوة الشخصية، بينهن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ورئيسة موظفي البيت الأبيض ومديرة محطة الاستخبارات المركزية في لندن، لكن فات صنّاعه أن الشخصيات النسائية الرئيسة ومن بينها البطلة ربما تبعث برسالة معكوسة لهذا التوجه، بل إن زوجها الدبلوماسي المحنك السابق يبدو أكثر ملاءمة للمنصب، كما أنه الناصح الأمين والمخلص لها، وهو صاحب المجهود الأكبر في إنقاذ زواجهما الذي كاد ينهار نتيجة تباعد الأفكار بينهما، وكذلك لانجذاب كيت لوزير الخارجية البريطاني أوستن دينيسون الذي يجسد دوره ديفيد غياسي.

وعلى الخط ذاته مع كيت تأتي نائبة الرئيس غريس بين التي أدت دورها أليسون جاني، فهي إن كانت ناجحة مهنياً وعلى وشك أن تصبح سيدة البيت الأبيض فإنها تعيش أزمة شخصية بسبب فضائح عدة تخص زوجها، كما أنها متورطة في التعامل مع مرتزقة فجروا حاملة طائرات بريطانية مما أسفر عن مقتل 40 شخصاً، من أجل حماية مصالح بلادها النووية، وهو القرار الذي تسبب في كل هذه الدراما وانطلقت منه أحداث العمل، إذ أشعلت الواقعة الساحة الدولية، ومن المستغرب أن الدراما تحاول إقناع المشاهد بأن نائبة الرئيس أقدمت على عملية بهذا الحجم من دون الرجوع إلى الرئيس، فيما كانت كيت تتورط بالتدخل في شؤون إنجلترا عبر تصرف غير مسؤول له ثمن كبير في عالم الدبلوماسية، إذ كانت تجري وراء افتراضات تُتخذ بناء عليها قرارات لو حدثت في الواقع لحدث صدع كبير بين البلدين، فيكفي أنها صنعت فخاً لرئيس الوزراء البريطاني وتنصتت عليه بالفيديو لحسم شكوكها.

النساء لا يصلحن للبيت الأبيض

الصراع بين نائبة الرئيس وكيت التي تسعى إلى اقتناص هذا المنصب الرفيع مستغلة ضعف موقفها يُجسد في أكثر من مشهد جيد للغاية، بعضها كان جاداً وحازماً ويحمل ندية، وآخر كان يبدو تهكمياً وكأنه مناوشة نسائية مسلية، حينما منحت غريس خلاصة حكمتها لكيت من خلال مجموعة نصائح ثمينة تتعلق بكيفية تصفيف شعرها ونوعية الملابس التي تليق بقوامها، وكأن العمل يسوق مبررات جديدة لعدم ثقة الأميركيين في النساء اللواتي يتولين مناصب قيادية في عالم السياسة.

بالطبع كان إقصاء كامالا هاريس بهزيمة تاريخية من منصب الرئيس أمام دونالد ترمب خير دليل، وهو سيناريو سبق وتكرر بلمسات شبيهة مع هيلاري كلينتون قبلها، والمؤكد أن العمل إذ يتماشى مع توجهات الناخب الأميركي على أرض الواقع عُرض في توقيت يشعل مخيلة أصحاب نظرية المؤامرة، لتوافقه مع موجة السخرية من القياديات الأميركيات في الواقع والشاشة، على رغم أن العمل على المسلسل انطلق قبل سباق الانتخابات بوقت طويل، بل عقب نجاح موسمه الأول قبل عام ونصف تقريباً.

تبدو السفيرة كيت فوضوية المظهر وتقابل المسؤولين رفيعي المستوى بشعر أشعث وملابس ممزقة وغير مهندمة، وببشرة شاحبة توحي بأنها استيقظت من النوم ووضعت نفسها في أول هندام قابلها وخرجت من بيتها على عجل، لذلك قد تكتشف بالمصادفة أن ملابسها لا تزال تحمل ملصق الشعر، والأمر هنا غير متعلق بالبساطة وإنما بالإهمال غير المتناسب أبداً مع طبيعة مهنتها، بخاصة أن لديها فريقاً وبإمكانها أن توكل لفرد واحد فقط منهم مهمة تنسيق ملابسها والاهتمام بأناقتها ومساعدتها في الظهور بصورة ملائمة.

واللافت أن الإدارات الأميركية على مدى تاريخها استعانت بسيدات في مناصب بارزة أثبتن كفاءتهن في وظائفهن وكان مظهرهن أنيقاً للغاية، وبينهن وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس بيل كلينتون، مادلين أولبرايت، التي تميزت بتنوراتها شديدة القصر واختياراتها الشهيرة من السترات وشعرها الأشقر المصفف بعناية، وأيضاً مستشارة الأمن القومي التي تولت أيضاً منصب وزيرة الخارجية لاحقاً خلال فترتي الرئيس بوش الابن على التوالي، كونداليزا رايس، القوية الشخصية والمتجهمة التي لم يمنعها منصبها الحساس والمهم من الاعتناء بإطلالتها التي كانت على رغم عمليتها الشديدة تتميز بالعصرية واللمسات الناعمة، إضافة إلى تصفيف شعرها القصير بشكل منمق.

العمل الذي يحاول تأكيد قدرات المرأة وحنكتها في العمل السياسي استدعى اسم رئيسة وزراء بريطانيا البارزة مارغريت تاتشر، وأشار إلى مثابرة النساء في الولايات المتحدة على إثبات أنفسهن، وهو ما جاء واضحاً في مشهد جمع السفيرة ونائبة الرئيس حينما كانتا تبحثان عن المرأة الوحيدة التي تولت منصب سفيرة الولايات المتحدة لدى بريطانيا قبل كيت بعقود وهي آن ارمسترونغ، السياسية البارزة التي عملت مع الرئيسين فورد ونيكسون، وشغلت المنصب بين عامي 1976 و 1977، في دلالة على أن الإدارة الأميركية تفضل أن يكون هذا المنصب ذكورياً تماماً، ولا تثق في النساء لتولي مهماته.

بين كيت وايلر وكاري ماثيسون

القصة التي ابتكرتها ديبورا تشان وأخرجها أليكس جريفز اللذان شاركا سابقاً في مسلسل "هوملاند"  Homeland تبدو وكأنها تستعرض تصوراً خاصاً لمستقبل بطلة "أرض الوطن" بعد أن تتقاعد وتترك مهنتها كعميلة سرية استخباراتية، فكاري ماثيسون (كلير دانس) لا تختلف كثيراً في مظهرها عن بطلة "ذا دبلومات" كيت وايلر، سواء في عصبيتها أو نظراتها الغاضبة أو حتى نمط ملابسها شديد العملية، فكأن كيت بطريقة ما هي امتداد لكاري، ولا سيما أن بطلة "هيئة دبلوماسية" مثل كاري لديها خلفية مهنية في أماكن النزاعات مثل العراق وأفغانستان، مما يمنح شخصيتها أبعاداً مختلفة غير معتادة في ما يتعلق بحياة الدبلوماسيين الوقورين، فتبدو متأثرة كثيراً بتاريخها العملي في المطاردة والتشكك، في حين أن جوهر الدبلوماسية يقوم على أن الدول الكبرى تغضب لكنها لا تتجاهل أبداً القنوات الدبلوماسية، ولا سيما مع حلفائها، إلا أن لكيت طريقتها حين لا تتردد في أن تحول ساحات البلدان الصديقة إلى مسرح للـ "آكشن".

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومفهوم أن أي منصب سياسي لممثل دولة ذات ثقل سياسي ولديها عداءات على جبهات عدة مثل الولايات المتحدة، وكذلك بريطانيا التي تدور على أرضها الأحداث، قد يعرض صاحبه لمفاجآت وطوارئ ويضطره كثيراً إلى التعامل مع تهديدات مفاجئة، لكن هذا يحدث في الظروف غير الاعتيادية فقط وليس طوال الـ 24 ساعة، إذ يلهث المشاهد وراء طوارئ السفيرة التي لا تنتهي، بينما تغيب الدبلوماسية التي يتخذها المسلسل عنواناً له عن المشهد، ولا تظهر إلا بالمصادفة وكأنها ديكور ثانوي.

الـ "آكشن" قبل المنطق

تختلط مهمات السفيرة الدبلوماسية مع مهمات المحققة السرية التي تقوم بأعمال المراقبة والتمويه، وتضع خططاً للتنكر وإخفاء الأشخاص، وتدخل في مطاردات بطريقة بوليسية وبعيدة من مظلة عملها الرسمي، وتنجذب للمخاطرة وتبدو في هيئتها وسلوكها بالكامل كضابطة مخابرات تعمل في بلد مضطرب أمنياً أو في حال حرب، والتبرير هو خلفيتها الميدانية في أماكن التوتر في الشرق الأوسط، فتبدو معها حياة السفراء كلها طوارئ، وتتحول مهنة الكلام المنمق والأحاديث المعدة سلفاً وفق بروتوكولات معروفة إلى مهنة الارتجال، مما يبعدها عن الحكمة في عدد من المواقف.

ومع هذا الاختلاط في تلك المهمات يكتشف الجمهور أن وجهة نظرها في بعض الشخصيات عادة ما تخيب، فقد تعرّف المشاهد في البداية على شخصية رئيس الوزراء البريطاني نيكول تروبريدج من منظور كيت ليظهر فقط جانبه المضطرب، لكن مع تقدم الحلقات تتكشف مواهبه في كبح جماح نفسه، كما لا يترك كراهيته لبعض عناصر فريقه أو الفريق الأميركي تؤثر في طريقة إدارته، فيقدم النجم روي كينير دوره بهدوء ويقظة، ويمسك جيداً بطبيعة الشخصية التي تتضح معالمها أكثر في الموسم الثاني من العمل.

يبدو "ذا دبلومات" مولعاً بإثباتات غير منطقية ومن بينها أن حياة المسؤول الأميركي خارج وداخل دائرة العمل مليئة بالـ "آكشن"، تماماً مثل أفلام الأبطال الخارقين، إذ تتعقد الأمور طوال الوقت وعلى المسؤول أن يقفز من هنا إلى هناك لينقذ الموقف وربما ينقذ العالم، وهي عادة أميركية درامية شهيرة، فلا شيء يسير وفق الخطة الموضوعة مسبقاً حتى لو كان مجرد حفل يقدمون فيه الفطائر ويطلقون فيه الألعاب النارية.

وكثير من الأعمال ذات الصبغة السياسية التي تقدمها الولايات المتحدة تميل إلى إظهار رجال الإدارة كأبطال نابغين يحركهم الحس الأمني الذي عادة ما يصدق، ولديهم قدرة هائلة على القيادة في الظروف الاستثنائية الصعبة، وبالتالي تتحول قصص السياسة إلى "آكشن" ليبدو المسؤولون التنفيذيون بمثابة عاملين في جهاز الخدمة السرية المنوط بهم حراستهم، بل يتفوقون على عناصره.

يذكر أن العمل وعلى رغم ما روج حوله منذ البداية على أنه دراما سياسية خيالية تحاكي ما يجري داخل الغرف المغلقة في عالم السياسة، فإن صناعه انجذبوا إلى حال التشويق وأخلصوا لها، وانتصروا لدراما الإثارة ولا سيما في موسمه الثاني.