دراما الهوية والدم بين اليابان وكوريا الجنوبية

المصدر : INDEPENDENT | السبت , 22 تشرين الثاني | : 84

يأتي هذا العمل الياباني الجديد الذي تعرضه "نتفليكس"، بعد النجاح العالمي لـ "شوغان" Shōgun وسيطرة "لعبة الحبار" على المخيلة الجماهيرية، في وقت تحوّل نوع ألعاب الموت إلى لغة سردية عالمية.

في لحظة مبكرة من "الساموراي الأخير الصامد" Last Samurai Standing، يرفع شوجيرو ساغا سيفه مغطّى بالطين، وسط دوي المدافع وتهاوي الجثث حوله، ويصرخ: "توقّفوا!".

صرخة لا تبدو مجرد أمر في ساحة معركة، بل احتجاج يائس ضد الحداثة نفسها، ضد اليابان التي تحاول إعادة كتابة ماضيها بعنف. المشهد، بأبعاده الأسطورية، أشبه بمقدمة مسرحية ضخمة تدعو المشاهد إلى إعادة التفكير في تاريخ الأمة وهويتها.

يأتي هذا العمل الياباني الجديد الذي تعرضه "نتفليكس"، بعد النجاح العالمي لـ "شوغان" Shōgun وسيطرة "لعبة الحبار" على المخيلة الجماهيرية، في وقت تحوّل نوع ألعاب الموت إلى لغة سردية عالمية.

لكن Last Samurai Standing ليس مجرد إضافة إلى هذا النوع، إنه تأمل عميق في هوية وطن عاش لحظة انكسار، ويقدّم سرداً عن الحداثة المبنية على الدمار والتطهير. حقبة الميجي، كما يصورها المسلسل، ليست احتفالاً بالتحديث، بل صحوة مؤلمة ودامية لم تُحسم بعد.

فالحقبة التي امتدت بين عامي 1868 و1912، كانت فترة تحوّل جذري في تاريخ اليابان، حين انهارت البنية الإقطاعية التقليدية واستبدلت بدولة حديثة مركزية تسعى للحاق بالغرب في مجالات الاقتصاد والسياسة والعسكرية.

لكن كما يصورها المسلسل، هذه الحقبة ليست احتفالاً بالتحديث أو بانتصار الدولة على الإقطاع فحسب، بل صحوة مؤلمة ودموية لم تُحسم بعد. إنها محاولة لتفكيك الحداثة نفسها، لفهم ما دفع أمة إلى بناء المستقبل على جثث أولئك الذين اعتُبروا غير مناسبين للعصر الجديد.

وهذا التنافر العميق بين الشرف والموت، بين الفرد والدولة، وبين الماضي والحاضر، هو ما يجعل افتتاحية المسلسل مشهداً يشد القارئ منذ اللحظة الأولى، ويضعه في قلب جدلية ثقافية تمتد من اليابان إلى كوريا، ومن الماضي إلى الحاضر، حيث يلتقي ساموراي الميجي برقصة الموت العالمية الحديثة التي بدأت بـلعبة الحبار.

 إذا كان Shōgun قد قدم للغرب صورة مصقولة وملهمة، فإن Last Samurai Standing يقدم نسخة خشنة، متناقضة، وأكثر يابانية في جدلية الهوية. فكرة المسلسل - 292 ساموراي منزوع الامتيازات يُرمى في لعبة موت ترعاها الدولة للقضاء عليهم نهائياً- تبدو نسخة ميجية من Battle Royale (فيلم للمخرج كينجي فوكاساكو)، لكن العمل يتعامل مع الحدث ليس كاستعراض، بل تجربة تشريحية لانهيار كامل، حيث تتقاطع الشخصية الفردية مع التاريخ الوطني في لعبة شديدة القسوة، تعكس المعاناة التاريخية للأمة. الساموراي هنا ليسوا مجرد مقاتلين، هم رموز لهوية فقدت مكانتها، وأجسادهم المهدورة على أرض المعركة تشكل مرآة للأمة التي تحاول فهم تكاليف تحولها إلى دولة حديثة.

إنهم حاملون لأسئلة حول الولاء والشرف والبقاء في زمن يتجاوز فيه الإقطاعي ليصبح الحداثة قانوناً قاسياً.

المباراة الدموية المركزية في السرد وهي الكودوكو، تستعيد طقساً فولكلورياً مرعباً: يوضع عدد من الحشرات في إناء مغلق، تتقاتل حتى يبقى واحد فقط يبتلع سمّ الآخرين. استعارة واضحة لكنها فعالة للغاية، تذكّر بمبدأ البقاء للأقوى، لكنها محملة بعبء سياسي واجتماعي.

المقلق في الكودوكو ليس عنفها فقط، بل بيروقراطيتها المحكمة، مهندسها كواجِي، رئيس الشرطة الوليدة، يتعامل مع الساموراي كما يتعامل مهندس صناعي مع خردة تعيق خط الإنتاج.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللعبة ليست عرضاً للتسلية، إنها تطهير دولة ترتدي قناع التمرين القتالي. وبين جفاف السرد وقسوته، يلوح تأثير المخرج أكيرا كوروساوا المتأخر ونبرة الدراما السياسية اليابانية المعاصرة.

شوجيرو، الذي يجسّده جونيتشي أوكادا بأداء داخلي متماسك، لا يدخل اللعبة بدافع البطولة. الكوليرا تفتك بعائلته، والاقتصاد المحطّم تركه معدماً. الدافع هنا يذكّر بدوافع شخصيات لعبة الحبار، لكنه يذهب في اتجاه آخر تماماً.

فبينما دانت الأخيرة الرأسمالية الحديثة، يسأل Last Samurai Standing هل بُنيت الحداثة اليابانية على جثث من لم تتّسع لهم شروط الدولة الجديدة؟

لطالما تجنّبت الدراما اليابانية تناول مرحلة الميجي بهذا القدر من القسوة والارتباك. غالباً ما قدّمت كقصة نجاح نظيفة: تخلّي دولة عن أثقالها الإقطاعية لتلتحق بركب الحداثة. لكن هذا العمل يعيد فتح الجرح، مقدّماً التحديث كعملية جفاف ثقافي، كتسرّب طويل للهوية. تواجه اليابان اليوم أزمات متعددة: انكماش ديمغرافي، ركود اقتصادي، قلق جيوسياسي، وتراجع في سباق القوة الناعمة مقارنة بكوريا الجنوبية.

وبينما منحت كوريا العالم "لعبة الحبار" و"Parasite"، تجد اليابان نفسها مضطرة لإعادة صياغة صوتها عبر الرواية التاريخية. من هنا تأتي رمزية العمل الجديد بوصفه رداً ثقافياً غير مباشر، حيث استخدمت كوريا ألعاب الموت لفضح ظلم الحاضر، تستخدم اليابان النوع نفسه لا لتصويب حاضرها بل لتفكيك ماضيها.

الكودوكو ليس استعارة فقط، بل طقس لطرد أرواح تاريخية.

المقارنة بين العملين تكشف أبعاداً ثقافية وفلسفية أعمق. في "لعبة الحبار": العنف انعكاس لحاضر رأسمالي متوحش، المشاركون مواطنون سحقهم الدين والاقتصاد، الموت نتيجة طبيعية للنظام.

أما في Last Samurai Standing العنف انعكاس لقرار دولة بإعادة تشكيل ذاتها، الساموراي طبقة محكوم عليها بالفناء، الموت جزء من مشروع التحديث نفسه. كلا العملين يقدّمان لعبة موت، لكن الأولى معاصرة، والثانية تأسيسية، الأولى تصرخ في وجه الحاضر، والثانية تفكك الماضي.

بينما تتساءل لعبة الحبار: ما الذي يشوّه الإنسان اليوم؟، يتساءل Last Samurai Standing  ما الذي شوه اليابان عندما أصبحت حديثة؟. في كوريا، النظام يبتلع أبناءه، أما في اليابان، الدولة الجديدة تبتلع أبناء ماضيها.

وهنا تكمن القيمة الثقافية للمقارنة: في سياق آسيوي أوسع، كوريا تواجه اختناق حاضرها، بينما اليابان تواجه شبح ماضيها. نوع الموت واحد، لكن الوظائف والغايات مختلفة؛ الأولى نقد اجتماعي، والثانية نقد تاريخي ونفسي للأمة.

يشرف أوكادا على تصميم القتال بنفسه، مقدماً قتالاً أقرب إلى طقوس بدائية منها إلى مشاهد أكشن معاصرة. حركة السيوف في الطين، ارتطام الجسد بالأرض، اللقطات الطويلة الخالية من الحيل الرقمية، كلها تعيد لغة تقليدية لكنها تمر عبر عدسة سينمائية حديثة.

ربما أكثر ما يميز العمل بصرياً، نمط عرق الورقة الذي صمّمته مياموري يوي: خطوط دقيقة تظهر في الأزياء، الرايات، وديكور المعابد، كأن كل شخصية وكل تقليد يتحلل أمام العين.

بينما يمنح Shōgun اليابان لمعان الأسطورة، يقدّم Last Samurai Standing يابان مكسورة، تتلمّس أطراف ماضيها. المدن نصف مبنية ونصف متداعية، والساموراي يتجولون كأشباح غير متأكدين من حاجتهم المستمرة.

ينتهي الموسم الأول فجأة، بانهيار التحالفات، واستمرار الكودوكو، واقتراب المواجهة بين شوجيرو وكواجِي كأنها إعادة اختزال لصراع الميجي في جسدين فقط. جملة نهاية الفصل الأول ليست إغلاقاً بل تحدياً. العمل، في النهاية، لا يقدّم حنيناً، بل مساءلة: اليابان وهي تتفحّص كلفة تحوّلها إلى ما هي عليه.

فحيث حذّرت لعبة الحبار من أن النظام يلتهم مواطنيه، يتساءل المسلسل الياباني، هل يمكن لأمة أن تصبح حديثة من دون أن تبتلع ذاكرتها؟ وهكذا يركض الساموراي نحو طوكيو لا لاستعادة شرفهم، بل لمعرفة ما إذا كانوا يستحقون مكاناً في المستقبل.