حقبة خيانات "ناسا" تخنق الفضاء الأوروبي

المصدر : INDEPENDENT | الثلاثاء , 25 تشرين الثاني | : 62

ظهرت أشد مخاوف وكالة الفضاء الأوروبية من التغييرات الهائلة التي حدثت خلال العام الأول من ولاية ترمب الثانية في مجال الفضاء الأميركي بشقه الحكومي المتمثل في وكالة ناسا.

يبدو أن ثلاث بعثات فضائية أوروبية رئيسة باتت معرضة للإلغاء بسبب تخفيضات موازنة ناسا، إذ حددت وكالة الفضاء الأوروبية  (ESA) البعثات الثلاث التعاونية وهي ليزا، وإنفيجن، ونيوأثينا، بوصفها مهام في خطر شديد. وليزا هو مرصد فضائي لموجات الجاذبية، بينما إنفيجن، هو مسبار يدور حول كوكب الزهرة، وأخيراً نيوأثينا فهو أقوى مرصد للأشعة السينية يطلق على الإطلاق.

وتعتمد هذه البعثات بصورة كبيرة على مساهمات ناسا، ومعظم مهام وكالة الفضاء الأوروبية الـ19 المشتركة مع وكالة الفضاء الأميركية من دون تغيير حتى الآن. لكن في مرمى النيران أيضاً مشروع "Sentinel-6C" وهو متابعة لمشروع "Sentinel-6B" المكلف رصد مستوى سطح البحر، ومن المهام الأخرى التي تواجه ضغطاً كبيراً، مركبة روزاليند فرانكلين المريخية.

أعادت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب تخفيض موازنة "ناسا" الفضاء الأميركي والعالمي إلى حقبة خيانات "ناسا" للفضاء الأوروبي. ففي ذاكرة دول القارة العجوز هناك ما يعرف بحقبة الخيانات الأميركية للفضاء الأوروبي، التي بدأت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما عام 2012.

واليوم، تواصل ناسا نهجها القديم في الانسحاب من مشاريع الفضاء التي تسهم بها أوروبا بصورة كبيرة، غير أن وقع وأثر الخيانة هذه المرة تجاوز كل الحدود، لأنه يأتي في ظل الحرب الروسية - الأوكرانية.

وكالة الفضاء الأوروبية (ESA) لا تزال ماضية في مشاريعها العلمية كالمعتاد على رغم نكوص "ناسا" عن بعض المهام الكبرى المشتركة بينهما، إذ أكدت مواقف وكالة الفضاء الأوروبية أنها تتحدى قرارات ترمب في تخفيض موازنة "ناسا"، وأنها ماضية في مشاريعها لغزو المريخ وكواكب أخرى من دون مساعدة وكالة الفضاء الأميركية الحكومية. وذلك تزامناً مع قرب اجتماع "المجلس الوزاري" للفضاء الأوروبي المقرر في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

وأصبح السؤال الذي يتداوله المجتمع العلمي الأميركي والعالمي الآن هو هل ستصمد مهام علوم الفضاء الأوروبية الرائدة في وجه تخفيضات موازنة "ناسا"؟

بالعودة إلى الخيانة الأولى التي تعرضت الوكالة الأوروبية للفضاء من "ناسا" في عهد أوباما فإنها ترتبط بسحب إدارته مشاركة الوكالة الأميركية في مشروع روزاليند فرانكلين، فلجأت أوروبا حينها للفضاء الروسي لإنقاذ المهمة.

وعلى رغم ذلك، ظلت هذه المهمة التي تعد أهم مهام الفضاء الأوروبي معلقة حتى يومنا هذا. والآن هي مهددة من جديد، لأن الحرب الروسية - الأوكرانية منذ عام 2022 تحول دون لجوء الأوروبيين إلى خدمات موسكو في هذا المجال.

لكن أكثر ما يؤلم الفضاء الأوروبي هو وضع "روزاليند فرانكلين" وهي أول مركبة أوروبية لاستكشاف المريخ، إذ تنتظر المركبة الجوالة القديمة الآن في غرفة نظيفة في ميلانو لإطلاقها المقرر عام 2028.

من هنا قرر المجلس الوزاري لوكالة الفضاء الأوروبية أن يجتمع في نهاية نوفمبر الجاري في ألمانيا، لتحديد توجه الوكالة للأعوام الثلاثة المقبلة والاتفاق على موازنتها الثلاثية القادمة. ولأن المناقشات حول موازنة ناسا لعام 2026 لم تختتم بعد، ستتخذ وكالة الفضاء الأوروبية قراراتها في الظلام.

أما حصة الفضاء الأوروبي المتوقعة من الخسارة بسبب التخفيضات الكبيرة في موازنة "ناسا" التي اقترحها ترمب أخيراً فتصل إلى ملياري دولار أميركي.

"روزاليند فرانكلين" هي أول مركبة أوروبية لاستكشاف المريخ، وفي عام 2022 كانت المركبة ستطلق ضمن مهمة "إكسومارس" بمساعدة روسية وكانت جاهزة للانطلاق على متن صاروخ بروتون من قاعدة "بايكونور" الفضائية في كازاخستان، إلا أنه بعد الحرب أنهت وكالة الفضاء الأوروبية هذا التعاون.

ووافقت الدول الأعضاء في الوكالة على تقديم 360 مليون يورو إضافية (417 مليون دولار أميركي) لبناء منصة هبوط جديدة للمركبة الجوالة لتحل محل تلك التي قدمتها روسيا.

وفي ذلك الوقت الحرج تدخلت ناسا، مقدمة منصة إطلاق وصواريخ كبح ارتدادية، وأجهزة تسخين بالنظائر المشعة تعتمد على البلوتونيوم. والآن وبسبب تخفيضات جديدة في موازنة ناسا تنتظر المركبة الجوالة القديمة في غرفة نظيفة في ميلانو إطلاقها المقرر عام 2028 بقلق بالغ.

ووصفت مصادر مطلعة تخفيضات ترمب الحالية لموازنة ناسا بالخيانة الثانية من قبل ناسا للوكالة الأوروبية، خصوصاً في ظل عدم قدرة (ESA) على اللجوء للفضاء الروسي لإكمال المهمة.

في مقالة بقلم تيريزا بولتاروفا وهي صحافية متخصصة في العلوم والتكنولوجيا، مقيمة في لندن، نشرت قبل أيام تحت عنوان "هل ستصمد مهام علوم الفضاء الأوروبية الرائدة في وجه تخفيضات موازنة ناسا؟"، أكدت الكاتبة أنه بحلول منتصف عام 2026، تتوقع وكالة الفضاء الأوروبية أن تكون قادرة على اتخاذ قرار في شأن المضي قدماً، وذلك مع وضوح متوقع حول تمويل ناسا وطموحات الدول الأعضاء لتمويلها.

وقالت بولتاروفا، "تواجه مهام علوم الفضاء الأوروبية الرائدة، التي تجرى بالتعاون مع وكالة ناسا، عجزاً محتملاً في التمويل المشترك يقارب ملياري دولار أميركي، بسبب تخفيضات الموازنة التي اقترحتها إدارة ترمب. وتأمل وكالة الفضاء الأوروبية أن تقدم دولها الأعضاء على إنقاذ الموقف".

بحسب الصحافية المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا فإن مشروع ليزا، الذي بدأ بناؤه في وقت سابق من هذا العام، سيتأثر بشدة. وتعتمد المهمة على معدات عالية التقنية من وكالة ناسا تصل قيمتها إلى مليار دولار، وذلك فقاً لجمعية الكواكب، وهي مجموعة غير ربحية للدفاع عن استكشاف الفضاء.

ومن المتوقع أن تتلقى شركة "EnVision" من وكالة ناسا جهاز رادار ذي فتحة تركيبية جديد تقدر قيمته بـ300 مليون دولار. كما تحتاج مركبة "روزاليند فرانكلين" التي تأخر إطلاقها كثيراً، إلى بعض المساعدة من "ناسا" للوصول إلى وجهتها. وتقدر هذه المساعدة بنحو 375 مليون دولار، وفقاً لجمعية الكواكب أيضاً.

وخصصت مساهمات إضافية لمرصد الفضاء العملاق للأشعة السينية "نيو أثينا" المخطط له، ومرصد الكواكب الخارجية "أرييل"، و15 مهمة علمية أخرى أصغر حجماً.

وقال كيسي دراير، رئيس قسم سياسات الفضاء في جمعية الكواكب، لموقع علمي، إن التقديرات السابقة تستند إلى تعهدات موازنة "ناسا" التي أعلنت في العام الأخير من إدارة الرئيس السابق جو بايدن، فيما قال مصدر مطلع على الوضع داخل وكالة الفضاء الأوروبية طالباً عدم ذكر اسمه، إن الوكالة تعتقد أنها "قادرة على استيعاب التأثير"، شريطة أن تحقق "نتائج وزارية جيدة لتلك البعثات".

بمعنى آخر، من المرجح أن تضطر وكالة الفضاء الأوروبية إلى إقناع دولها الأعضاء بدفع مئات الملايين من اليورو، إضافة إلى التزامات التمويل السابقة، لإطلاق تلك البعثات. وأضاف المصدر أن القدرات التقنية متوافرة في أوروبا لتعويض انسحاب "ناسا".

وعلى رغم نكوص "ناسا" عن تلك المهام، فإن وكالة الفضاء الأوروبية ماضية في مشاريعها العلمية كالمعتاد. وأضاف المصدر أن الوكالة "بدأت بالفعل مناقصات" مع شركات الصناعة الأوروبية للبحث عن بدائل محتملة لمكونات الوكالة الأميركية لمهمة ليزا التي تدور حول الشمس أي التلسكوبات وأجهزة الليزر الموجودة على متن المركبة الفضائية. وعلى رغم أن دعم الدول الأعضاء لعملية الإنقاذ هذه لم يؤمن بعد، ترغب وكالة الفضاء الأوروبية في توقيع عقود تطوير مبكرة مع موردين مختارين في يناير (كانون الثاني) عام 2026.

وتخطط الوكالة لاتباع مسار مماثل بالنسبة إلى مهمة "EnVision"، وقال المصدر "نناقش مع دولنا الأعضاء طموحاتهم في تحمل مسؤولية عنصر أو أكثر من عناصر ’ناسا’ في حال احتجنا إلى اتخاذ إجراءات إنقاذ. وبحلول منتصف عام 2026، نتوقع أن نكون قادرين على اتخاذ قرار في شأن المضي قدماً، مع توضيح تمويل الوكالة الأميركية وطموحات الدول الأعضاء وتمويلها. عندها، إما أن نوقف عقود التطوير أو نواصلها".

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفقاً لتيريزا، توقعت وكالة الفضاء الأوروبية سابقاً أن تدفع نحو 1.9 مليار دولار أميركي لمشروع ليزا، مع مساهمات إضافية تأتي بصورة فردية من دول عدة أعضاء، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة وهولندا وسويسرا.

وفي موعد لا يتجاوز عام 2035، سيجري إطلاق المركبات الفضائية الثلاث التابعة لكوكبة ليزا. وهذه المجموعة تعد بفتح آفاق جديدة من الإمكانات في مجال أبحاث موجات الجاذبية، إذ تتميز أجهزة كشف موجات الجاذبية على الأرض، ببراعة في رصد الموجات الناتجة من اصطدامات الثقوب السوداء الصغيرة. من ناحية أخرى، صمم ليزا لرصد اصطدامات الثقوب السوداء الهائلة، التي تقدر كتلتها بمليارات الشموس، التي توجد في مراكز المجرات.

وتتمثل مهمة مسبار "إنفيجن" في دراسة العمليات الجيولوجية والغلاف الجوي على كوكب الزهرة لتفسير سبب تطور الكوكب بصورة مختلفة تماماً عن الأرض.

أدى تقليص موازنة ناسا بصورة غير مباشرة إلى إخراج الفضاء الأوروبي من المنافسة في سباق غزو المريخ. لكن وكالة الفضاء الأوروبية تلقت "أنباء إيجابية" من الجانب الأميركي، تشير إلى احتمال إعادة تمويل ناسا لبعض المهام. ويأتي المؤتمر في ظل توتر متزايد مع روسيا، وهو تطور يضغط على الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها الدفاعي.

وعلى سبيل المثال، تعهدت ألمانيا استثمار 35 مليار يورو (41 مليار دولار) في تقنيات الفضاء العسكرية على مدى الأعوام الخمسة المقبلة، وهو ما يعادل موازنة وكالة الفضاء الأوروبية بالكامل.