تغيب التربية الموسيقية عن المناهج التعليمية في لبنان فيما يحاول "الشغوفون" بالموسيقى والفن فرضها على أجندة المجتمع. ولا تقتصر التحديات على المستوى التربوي، وإنما تتجاوزها إلى مكانتها في المجتمع، وانتشار الثقافة الاستهلاكية والفن الهابط.

تعيش المبادرات الموسيقية في لبنان تحدياً مزدوجاً، فهي تخوض "تجربة التحديث" سابحة عكس التيار الفني السائد والقائم على "الفن الاستهلاكي"، إضافة إلى أنها تبحث عن "الاستمرار" كمادة ثانوية في ما تبقى من مدارس ومعاهد تعليمية.

وقد أثبتت السنوات الماضية مرونة أهل الفن والفكر واستجابتهم للتحدي من خلال تقديم المحتوى الأصيل من عكار في أقصى الشمال اللبناني إلى جنوب البلاد وصولاً إلى بقاعها. وأبدى هؤلاء قدرة نادرة في إحياء "موروث ثقافي وشعبي" وفنون الموشح وصهر المقامات الشرقية مع أصوات آلات موسيقية، ومنها الدربكة مع الرق والبزق والسنطور التي يحاول تقديمها شبان "بيت الموسيقى" التابع لجمعية النجدة الشعبية اللبنانية في أكثر من مناسبة، ونقل الموسيقى من دائرتها الخاصة إلى حق للجميع، وتنمية شخصية وموهبة المتعلمين.

ومع هيمنة منصات التواصل الاجتماعي والبث السريع وتراجع دور الإذاعات والمهرجانات التي كانت تشكل منصات لاكتشاف الأصوات الأصيلة، باتت الموسيقى التقليدية تواجه تحدي البقاء في سوق باتت تتعامل مع الفن كمنتج استهلاكي آن، لا كتُراث يستحق الحماية والاستمرار.

منذ سنوات بدأت أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية مارلين يونس مساراً فكرياً فريداً، مستلهمة من سمو مكانة الموسيقى والفلسفة. وهي في أحدث تجاربها تحاول "استنطاق الميتافيزيقا في فلسفة النغم - نموذج أغاني أم كلثوم"، وتلحين أشعار "رواد من لبنان" مثل الأدباء عبدالله غانم وجورج مغامس. وقد أفردت "بصمة خاصة" خلال احتفالات التكريم والمحاضرات والمؤتمرات العلمية، حيث تجمع بين الموسيقى والغناء والطرح الفكري، وتطعيم الموسيقى بالفلسفة، وبالعكس.

وتنتقي مارلين يونس إحدى قصائد الشاعر، ومن ثم تلحنها وتقدمها بقالب جمالي الرصين، وعدد كبير من الألحان على غرار "كل الحياة" من تأليف عبدالله غانم، وتلحين نصوص عميقة مثل "أسرار بيروت" و"مريم"، وعزفت للياسمين صبابة" و"يا ابتهال الحكاية".

pexels-ron-lach-9654036.jpg

تعود يونس إلى مرحلة الطفولة التي اقترنت بلحظتين، مثلما تقول، فهي اكتشفت "الشرارة الألوهية والصوت الجميل الذي ورثته عن والدها"، أما اللحظة الثانية فهي الحضور الدائم لأصحاب الأصوات الشجية في ثنايا المنزل، وفي مقدمهم أسماء عربية كبيرة ومنها أم كلثوم وأسمهان وعبدالوهاب ووديع الصافي وفيروز، وقد "خاطب هؤلاء الدهشة الفلسفية بعمق الكلمات والألحان في بعض أغانيهم"، وصولاً إلى تحصيل المعرفة في الكونسرفتوار، أي المعاهد الفنية.

تستعرض يونس 20 عاماً من تجربتها السابقة في تعليم الموسيقى ضمن الصفوف المدرسية والعمل على تنمية ذوق النشء الجديد، والاعتماد على موهبة التلحين، وتقول "كنت أعطي من روحي وتعليم الطلاب جملاً موسيقية صعبة تغني العقل والذكاء، وعدم الاكتفاء بتدريس الإيقاع"، حيث "كنا ننتقي جملاً وقصائد بالفصحى والأدب اللبناني والترانيم الدينية، ومن ثم يتم تلحينها لتأكيد الهوية لهذا الشعب الأصيل"، وقد "شكلت دراسة السولفيج (نظام تعليمي موسيقي يستخدم لتعليم قراءة النوتة الموسيقية وغناء السلالم والإيقاعات بطريقة منهجية) للطلاب وتعليم قراءة النوتة وغنائها مقدمة لتشجيع الكثيرين لدراسة الموسيقى والتخصص بفنونها".

وتردف يونس "نعمل لتغيير الصور النمطية عن دراسة الموسيقى في المجتمع اللبناني، فهي ليس للتسلية، فضلاً عن أنها مربكة للعقل البشري، وتأخذ الإنسان نحو العمق بسبب المعادلات الرياضية القائمة عليها"، مضيفة "سرعان ما يهرب بعض الطلاب من العزف والموسيقى الجدية بعد اكتشاف دقتها وحاجتها إلى قدرات ذهنية عالية، ونجد أن مختلف الفلاسفة كانوا موسيقيين في مقدمهم الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه الذي كان يعزف البيانو، وغيره كثير".  

دخلت المبادرات الموسيقية في مواجهة مباشرة مع البيئة الاجتماعية التي تعاني الانهيار المالي والاقتصادي، ويبحث المواطن والطالب عن مصدر للدخل المستمر والاستقرار النفسي. وتشير إلى صعوبات تفرضها البيئة الاجتماعية بسبب حاجة الفن الكلاسيكي والموسيقى الراقية إلى بعض الظروف المشجعة على النمو، ولكن في المقابل تشدد على ضرورة محاربة الجهل في الدائرة الاجتماعية والمدرسية والانجراف وراء الأسماء المشهورة التي لا تقدم أي مضمون حقيقي وجدي. لذلك يقع على عاتق المربي إعادة التوازن إلى تفكير المتعلم، ومن ثم تقديم نموذج مختلف، وتضيف "عوضاً عن الانشغال بنقد السخافة، علينا تقديم مضمون جيد وألحان جميلة، وهذا ما نجسده في إعداد الحفلات والريسيتال السنوي، وتطعيم المؤتمرات بالألحان".  

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يقتصر الجهد الموسيقي في لبنان على البعد الفلسفي والتفكري، وإنما يتجاوزه إلى البعد العلاجي. ويتحدث الموسيقي أحمد الخير عن دور الموسيقى "فن الفنون" في تنمية الذوق العام في المجتمعات العربية، فهي تعبير عن المستوى الثقافي لشعب من الشعوب خلال عصر ما، معلناً تمسكه باستراتيجية "بناء الفرد والمجتمع"، و"علاج الأشخاص الذين يديهم حالات خاصة". حيث تحظى الموسيقى بدور أساس في علاج بعض الأمراض النفسية والعصبية سواء كانوا أطفالاً أو راشدين، حيث يسهم سماع الموسيقى في تعديل المزاج والاسترخاء وتحفيز الدماغ على ضخ بعض المواد الكيماوية والوظائف العضوية وهرمونات السعادة والشعور بالقوة.   

يتطرق الخير إلى أهمية "الموسيقى المجتمعية" حيث تصاحب الموسيقى بعض الأنشطة الجماعية من دون حاجة إلى تعليم المشارك أصول العزف، حيث تعطى الأولوية لتفريغ مكنونات النفس وإيصال بعض الأفكار بطريقة سلسة، ومعالجة بعض الاضطرابات على غرار مشكلة الفرط الحركي وقلة التركيز، ناصحاً النساء الحوامل بوقف التعرض لمضامين مواقع التواصل الاجتماعي لأن ذلك يؤثر في التكوين الحركي للأطفال، حتى وهم فيرحم أمهاتهن، حيث لاحظ الخير أن "الجيل الجديد يعاني قلة التركيز، حيث يضطر الأستاذ إلى مضاعفة الأنشطة الموسيقية داخل الحصة بسبب شعورهم السريع بالملل بفعل اعتيادهم التعرض للريلز والفيديوهات السريعة على مواقع التواصل الاجتماعي من سن مبكرة"، ناهيك بـ"تأثير الفن الهابط بصورة سلبية على تعلم الموسيقى الصحيحة ذات العرب والأغاني الفصيحة الرصينة، وهو ما يعكس الثقافة الشعبية السائدة التي تعتمد على الاستهلاك وسرعة الإنتاج"، وهو "ما يولد حقبة من الانحطاط الكبير بسبب ولادة الحنين إلى مضمون موسيقي وفني سيئ".

من هذا المنطلق يشدد الخير على إسهامات الموسيقى في العملية البيداغوجية - التربوية، حيث يساعد تعليم الإيقاع في معالجة مشكلات النطق واكتساب بعض الكلمات. ويقترح على الأساتذة "تعليم الأغاني التراثية للحفاظ على الهوية للشباب".

في المقابل يستغرب أحمد الخير "استعجال إدارات المدارس في استئصال مادة الموسيقى من المناهج، فهي أولى المواد التي ترفع من البرنامج التربوي بحجة ترشيد النفقات، وهو ما يدفع بعض الموسيقيين للبحث عن فرص سريعة والانغماس في الفن الاستهلاكي أو الغناء في إحدى علب الليل لتأمين بعض المداخيل وتأمين المعيشة والاستمرارية".

AFP__20250809__696L72T__v1__MidRes__LebanonArtsMusicDanceFestival.jpg

يكافح موسيقيون لبنانيون شباب في سبيل موهبتهم ومواجهة تمدد حال اليأس العامة. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى اجتماع مجموعة من أبناء منطقة الشوف الواقعة في جبل لبنان لتأليف فرقة "فوضى منظمة".

يتطرق العازف ربيع زيتوني عن هذه المغامرة التي بدأت منذ ست سنوات، وهي "فرقة لا تخفي هويتها السياسية الاجتماعية والنقدية"، فهي تبنت وغنت قضية "حق المرأة اللبنانية في منح الجنسية لأبنائها من أب أجنبي"، وقضايا الحب والحرب والسلام.

ويشير زيتوني إلى حال الصراع التي يعيشها الموسيقي مع البيئة والمجتمع، معاتباً شريحة واسعة من هؤلاء، حيث "ينقسم المجتمع إلى قسم صغير متقبل للفن ومحب للموسيقى، وقسم أكبر هو من يطربه الطبل والصراخ وأجواء الصخب في الملاهي الليلية"، متحدثاً عن "انتشار أنماط موسيقية لا تشبه ثقافتنا لأنه يؤمن بأن الفن وليد للواقع وعلاج له"، وهي بالتالي "تسلخ الفرد عن واقعه وتجعله أسير الفرفشة على رغم واقع الانهيار".

يعتبر زيتوني أن "فرقته تخوض تجربة جيدة نوعاً ما، ولكنها أخذت كثيراً من الجهد، واستنزفت كثيراً من الطاقات المادية والمعنوية والجسدية للعازفين، قبل الحصول على بعض الاعتراف والشهرة المحلية". ويأسف لأن "مهنة الموسيقى لا تحظى باحترام وتقدير كافيين في لبنان، ولا تؤمن الدخل الكافي بفعل عدم رعاية الدولة لها، على رغم كونها أداة للتعبير عن الأفكار وترجمة للضغوط التي يعانيها الفرد والجماعة"، ليخلص إلى "سعي الموسيقي اللبناني إلى فرض نفسه، خلف الفرص، لأن انتظار الفرصة هو بمثابة الرضوخ للعدم"، آملاً أن تتحسن أوضاع البلاد والاتجاه نحو الأفضل. 

أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أصوات لبنانية تعيد للموسيقى هيبتها المفقودة
أعلن في شمرا