إننا اليوم أمام خطر كبير يداهم الصناعة الموسيقية، ويجعلها تنحرف عن مسارها الجمالي الصحيح، بعدما غدت بعض الممارسات اللافنية تؤسس شرعية الممارسات الموسيقية وتجعلها تظهر على السطح على أساس أنها تدخل ضمن ما ينبغي أن يكون عليه المشهد الموسيقي.
في خضم التحول الفني السريع الذي بدأ يطبع الحياة الفنية في العالم، ثمة كثير من الظواهر الفنية التي برزت على السطح، لكن لا أحد ينتبه إليها أمام الغياب المهول للممارسات الفكرية للنقد الموسيقي. تحول كبير يحتاج اليوم إلى معاينته وتأمله والتفكير فيه، على ضوء التقدم التكنولوجي الذي أصبح يطبع الأغنية المعاصرة ويتحكم في أنماطها وموسيقاها. إن الطفرة التكنولوجية لعبت دوراً كبيراً، بعدما فتحت للموسيقى المعاصرة أفقاً جمالياً مختلفاً أصبحت فيه الموسيقى تعد من الفنون الأكثر شعبية إلى جانب السينما. فقد أسهمت تكنولوجيا تكبير الصوت مثلاً في تنظيم سهرات غنائية وحفلات موسيقية تستفيد منها شريحة كبيرة من الجمهور في مختلف العالم، إذ ساعد هذا العنصر الصغير في الخروج من سراديب القاعات والانفتاح على الأمكنة المفتوحة داخل الفضاء العمومي، بما جعل الصناعة الموسيقية تحظى ببعض من الوهج الفني من ناحية الانتشار السريع والالتحام الحميمي اليومي بالجماهير الهلامية.
إن هذه العملية قد تبدو اليوم عادية بالنسبة إلى الأجيال الجديدة، لكن أثرها يظل واضحاً في تاريخ الصناعة الموسيقية، لأنها أخرجت الاستماع الموسيقي من بُعده الفردي المرتبط بالذات، وجعلت الموسيقى تكتسح المجتمع وتدخل الأجساد في عملية استماع جماعي، بما جعلها تخلق ثورة فنية في مجال الصناعة الموسيقية، بيد أن هذه الثورة بقدر ما خلقت جدلاً في بداية الأمر، فإنها سرعان ما تحولت إلى عملية تلقائية بين الموسيقيين، بحيث غدا البحث عن جماليات الصورة يشكل ضرورة جمالية عند أي ممارس للموسيقى. لذلك، أسهم اختراع الفونوغراف على مستوى تسجيل الصوت وإعادة بثه ثورة في تاريخ الموسيقى، إذ اعتبر أول جهاز لتسجيل الصوت وتحويل عملية اشتغاله إلى طاقة ميكانيكية تحفظ الموجات الصوتية.
بقدر ما جددت "الموسيقى الإلكترونية" الأعمال الغنائية فإنها لعبت دوراً سيئاً في جعل كثير من الفنانين يختفون وراء هذا النوع الفني (مواقع التواصل الاجتماعي)
وقدم بعض البرامج التكنولوجية الخاصة بالموسيقى، طرقاً جديدة في تغيير هارمونية الإيقاع وإخضاع الآلات الموسيقية التقليدية إلى منهج تجديدي، دفعها للدخول إلى غمار حداثة تجريب موسيقي، من خلال إخضاع المقاطع إلى وساطة إلكترونية أسهمت لاحقاً في بروز نمط "الموسيقى الإلكترونية"، التي أصبحت اليوم تحظى بشعبية كبيرة وتستخدم على أساس أنها تيار موسيقي جديد وليس مجرد وسيلة لتحديث الصناعة الموسيقية والبحث لها عن منافذ ضوء جديدة تحتمي بها، بيد أن "الموسيقى الإلكترونية" جعل منها عدد من الموسيقيين أداة لصناعة نجومية فجة ومصطنعة تخفي كثيراً من ارتباكات بعض الفنانين على مستوى الصوت والعزف، فهي تخفي عجزهم وعدم قدرتهم على خلق مسار فني مغاير من طريق الصوت.
فبقدر ما جددت "الموسيقى الإلكترونية" الأعمال الغنائية وجعلتها تطرق آفاقاً أخرى، فإنها لعبت دوراً سيئاً في جعل كثير من الفنانين يختفون وراء هذا النوع الفني الذي يزيد من حدة الإيقاع الصاخب المستند إلى آلات إلكترونية، على حساب الجسد البشري وما يمكن أن يقدمه من أفق إبداعي مغاير. إننا هنا أمام أنماط موسيقية لا تفكر، بقدر ما تجعل الآلة تبدع نوتات وأنغاماً بطريقة يغدو معها الفنان كأنه عالة على الآلة الموسيقية وجمالياتها.
يقول كورتشان وروبنشين (أستاذان وعالمان روسيان في الموسيقى) "إن تطوير تقنية تسجيل الصوت واسترجاع الصوت وتحسين أجهزة المزج وانتشار تكنولوجيا الكمبيوتر خلال السبعينيات، كل ذلك يرسي الإلكترونية شكلاً مألوفاً للموسيقى الحديثة. وكان ملحنو النصف الأول للقرن يستمعون مسبقاً لأصوات إلكترونية لا يتمكنون من تجسيدها في الحياة، لكن الوضع مع نهاية القرن كان عكس ذلك، فالوسائل التقنية مكتملة، لكن مشكلة الموسيقى كانت تكمن في إيجاد الاستماع وتوفير الموهبة لذلك، واكتشاف واختراع نغماته الخاصة".
بهذه الطريقة تحول الاهتمام داخل الموسيقى الغربية من تأليف موسيقي أنتج على مدار أعوام عدداً من التجارب الغنائية الرائدة، صوب الاهتمام بنوع من الموسيقى الترفيهية المبنية على الإيقاع الصاخب والرقص المحموم الذي يجد امتداده التلقائي في طبيعة الحياة المعاصرة وتحولاتها الوجودية. إننا أمام واقع جديد ينبغي التفكير فيه على أساس أنه قد يؤثر سلباً في مفهومنا للموسيقى، ويجعلها داخل الحفلات والسهرات مجرد مادة فنية تحقق الترفيه للناس. إن ما يروج له اليوم داخل السهرات الموسيقية والحفلات الغنائية يبتعد كل البعد من الصناعة الموسيقية وأبعادها الجمالية. فالموسيقى تعزف داخل استوديوهات هادئة يصبح فيها العزف عملاً فنياً غايته أن يترك جرحاً في الجسد أو أثراً في ذاكرة لا تشيخ، لذلك نجد عدداً من الموسيقيين الحقيقيين يبتعدون كل البعد من أضواء الحفلات، لأنها في نظرهم تبتذل موسيقاهم وتجعلها تستجيد لرغبات الجمهور وليس لذاتية الفنان. وعلى رغم الشهرة التي تتيحها الحفلات والسهرات بالنسبة إلى الألبومات الغنائية، فإنهم يمتنعون عن المشاركة فيها معتبرين أن أغانيهم وموسيقاهم ستصل حتماً إلى الجماهير الهلامية، من دون حاجة إلى وسيط مؤسساتي أصبح يعد الموسيقى سلعة خاضعة لمنطلق العرض والطلب.
يقول الناقد الموسيقي الأميركي مارك كاتز "في الترويج للموسيقى بوصفها إحدى القوى العظيمة للخير في العالم، لا نعترف تماماً بالضرر الذي قد تحدثه. نحن نحتضن نماذج واضحة للسبب والنتيجة في شأن التأثير التكنولوجي ونهمل تعقيد علاقات القوة والسياسات الثقافية التي لها دور في طريقة تفاعلنا مع الموسيقى. وفي الاحتفال بإنجازات المخترعين والمبتكرين قد نبالغ في تقدير تأثيرهم ونهمل أثر وإبداع المستخدمين اليوميين للتكنولوجيا".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تركت الطفرة التكنولوجية تأثيراً كبيراً على الموسيقى الرقمية وتطبيقات التوزيع، بعدما فتحت للفنان أفقاً مغايراً في علاقته على مستوى التواصل مع الجمهور، ذلك أن المنصات الرقمية أتاحت له إمكانية الوصول إلى جمهور أكبر والترويج لألبوماته الغنائية، بعيداً من سلطة المؤسسات الإنتاجية وتفاهة الحفلات الغنائية. واعتبُر هذا الأمر بمثابة خرق كبير مؤثر في تاريخ الصناعة الموسيقية، لأنه وضع صناعة الموسيقى أمام ذاتها وجعل الفنان يخرج من إسار المؤسسات ليكون وحده في مواجهة العمل الموسيقي، لدرجة غدا فيها مسؤولاً عن تأليفه وعزفه وإنتاجه وتوزيعه، من دون اللجوء إلى مؤسسات إنتاجية تتوفر على الوسائل نفسها التي يمتلكها الفنان الموسيقي المعاصر.
حققت تطبيقات رقمية مثل "يوتيوب"، و"أبل ميوزيك"، و"سبوتيفاي"، نجاحاً كبيراً للموسيقيين وجعلتهم يتخففون من ثقل الحفلات الموسيقية وتقليداتها، لكون الفنان أصبح يجد نفسه أمام ممارسة فنية تعوق مشروعه الفني، إذ يغدو الآخر يتعامل مع الموسيقى على أساس أنها ممارسة غايتها الترفيه والاستهلاك. بهذه الطريقة تحولت الصناعة الموسيقية من بعدها الجماهيري الملتحم بالناس داخل المؤسسات والملاعب والساحات إلى أمكنة رقمية أخرى تعطي للجمهور متعة فردية خاصة، لا تجعله يخضع إلى طلبات فئة أخرى من الجمهور التي عادة ما تريد أغاني بذاتها، بحكم ما تمنحه للجسد من قوة على مستوى التفاعل الجسدي.
لا نعثر داخل الساحة الفنية الغربية والعربية منها على صوت النقد، فهو غائب ومغيب لكون المؤسسات الإنتاجية، لم تعد تراهن عليه ولا على قوته الفكرية في تأمل المراحل الجنينية التي يمر منها العمل الموسيقي من تأليفه إلى توزيعه. وعلى هذا الأساس، تكثر مثل هذه الظواهر الفنية التي تبتذل الصناعة الموسيقية، وتروج للناس ما لا ينبغي أن يكون أو في الأقل ما يجب التخفيف منه. إن النقد الموسيقي يلعب دوراً كبيراً في الجهر بحقيقة هذه الظواهر وتعرية ما تتستر عليه من رغبة في جعل العمل الموسيقي مجرد سلعة تباع وتروج داخل حفلات وسهرات.
إن النقد الفني، باعتباره ممارسة فكرية، تتأمل مسارات الأعمال الفنية، سواء كانت غنائية أو موسيقية أو سينمائية، يعطي للساحة الفنية أصالتها الجمالية، لأنه يلعب دور "الرقيب" المعرفي المجدد للخطاب الجمالي الذي يرافق الأعمال الموسيقية. فحين كان النقد الفني يقوم بوظيفته الجمالية، بوصفه وسيطاً فنياً بين العمل الموسيقي والجمهور، كان من الصعب على أشباه الفنانين ومعطوبي الخيال والذين يعانون فقر دم الإبداع أن يصبحوا من أهل الفن ومن المروجين للمنتج الفني في العالم. إننا اليوم أمام خطر كبير يداهم الصناعة الموسيقية، ويجعلها تنحرف عن مسارها الجمالي الصحيح، بعدما غدت بعض الممارسات اللافنية تؤسس شرعية الممارسات الموسيقية وتجعلها تظهر على السطح، على أساس أنها تدخل ضمن ما ينبغي أن يكون عليه المشهد الموسيقي.