كونها تمتلك القدرة على إنتاج نص ذي معنى يشبه المحتوى المكتوب بواسطة الإنسان، تسمح برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، للمصارف بتقديم الدعم على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، مما يزيل الحاجة إلى انتظار العملاء في طوابير طويلة أو التنقل بين قوائم الهاتف الصعبة.
لطالما اعتمد القطاع المصرفي العالمي على الابتكارات التكنولوجية وأضحى من بين أول من يتبنى ويستفيد من التكنولوجيا المتطورة. وبعدما اقتصر هذا القطاع على المؤسسات المادية، تحول اليوم إلى عالم رقمي تماماً، ويرجع ذلك جزئياً إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي.
يأتي ذلك وسط صدور تقارير بحثية عالمية تتحدث عن ارتفاع المسار المستقبلي للذكاء الاصطناعي التوليدي في القطاع المصرفي، وقد أشارت شركة الاستشارات الإدارية الأميركية "ماكينزي" إلى ذلك صراحة بقولها إن القطاع المصرفي من بين الصناعات المتوقع أن تحصل على أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي كنسبة مئوية من إيراداتها، ويمكن أن تراوح القيمة المضافة الإجمالية المحتملة التي تقدمها هذه التكنولوجيا بين 200 و340 مليار دولار سنوياً.
تطور الذكاء الاصطناعي في الخدمات المصرفية
ونظراً لطبيعة نماذج أعمالها، فلا عجب أن تكون المصارف من أوائل من تبنى الذكاء الاصطناعي. وعلى مر السنين، خضع الذكاء الاصطناعي لتحول كبير في القطاع المصرفي منذ تم تقديم تقنيات التعلم الآلي والتعلم العميق. ومع إصدار برامج مثل "بانداس" لتحليل البيانات في أواخر العقد الأول من القرن الـ21، اكتسب استخدام التعلم الآلي في الخدمات المصرفية زخماً، وظهرت الخدمات المصرفية والمالية كأحد أكثر المستخدمين نشاطاً لهذا الذكاء الاصطناعي السابق، مما مهد الطريق لتطورات جديدة في التعلم الآلي والتقنيات ذات الصلة.
واعتمدت أنظمة الذكاء الاصطناعي التقليدية في الخدمات المصرفية بصورة أساسية على التعلم الآلي، وقد استخدمت هذه الأنظمة التكنولوجيا للتعرف إلى الأنماط في البيانات التاريخية لتحديد الأسباب الجذرية للأحداث الماضية أو تحديد الاتجاهات للمستقبل.
تبني الذكاء الاصطناعي التوليدي
أما اليوم فيعد التأثير الذي يحدثه الذكاء الاصطناعي التوليدي على القطاع المصرفي هائلاً وخصوصاً في ما يتعلق بالعمليات المصرفية واتخاذ القرار. وفي بيئة الخدمات المصرفية الغنية بالبيانات، حيث يلعب تفاعل العملاء دوراً حاسماً وتؤدي قوة عاملة كبيرة مجموعة واسعة من المهام الروتينية اليومية، يبرز الذكاء الاصطناعي التوليدي كمحفز لإعادة تعريف حدود الكفاءة التشغيلية وتجربة العملاء واتخاذ القرار القائم على القواعد.
وفي حين قطع الذكاء الاصطناعي التقليدي شوطاً طويلاً في تحسين الكفاءة واتخاذ القرار في القطاع المصرفي، إلا أن قدراته كانت محدودة عند التعامل مع البيانات غير المنظمة وفهم اللغة الطبيعية والتحليل السياقي المعقد، وهنا توفر تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي مجموعة من القدرات الحديثة لمعالجة هذه القيود والذهاب إلى أبعد من ذلك.
بالمقارنة مع الذكاء الاصطناعي التقليدي، يمكن لنماذج اللغة الكبيرة (LLMs) تعلم الأنماط والبنية من أحجام أكبر من البيانات، بما في ذلك المعلومات من المدخلات غير المنظمة. وفي الخدمات المصرفية يمثل ما نتحدث عنه تحولاً نحو نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوراً وإبداعاً التي يمكنها إنشاء محتوى مخصص للغاية للتواصل مع العملاء.
وبينما يحلل الذكاء الاصطناعي التقليدي البيانات ببساطة ويضع التوقعات باتباع قواعد مبرمجة مسبقاً، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي المبني على الشبكات العصبية العميقة، يخلق بصورة مستقلة مخرجات متماسكة وذات صلة بالسياق.
تحسين خدمة العملاء
كونها تمتلك القدرة على إنتاج نص ذي معنى يشبه المحتوى المكتوب بواسطة الإنسان، تسمح برامج الدردشة الآلية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، للمصارف بتقديم الدعم على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، مما يزيل الحاجة إلى انتظار العملاء في طوابير طويلة أو التنقل بين قوائم الهاتف الصعبة. وتعمل هذه المساعدات الافتراضية الذكية بصورة مستقلة ويمكنها تزويد العملاء بالتوجيه والدعم بصورة فورية من خلال الاستجابة لطلباتهم الأساسية.
ومن الأمثلة على ذلك المساعد الافتراضي المولد للذكاء الاصطناعي المسمى "فارغو" الذي يُقال إنه تعامل مع 20 مليون تفاعل منذ إطلاقه في مارس (آذار) 2023 ومن المقرر أن يصل إلى 100 مليون تفاعل سنوياً.
وقد أطلقت شركة "بانك" الهولندية أداة تعتمد على الذكاء الاصطناعي تسمى "فين" تعمل على تبسيط التنقل في التطبيق والتخطيط المالي والبحث عن المعاملات، كما تسمح لمستخدميها بطرح أسئلة حول حساباتهم المصرفية وعادات الإنفاق والمدخرات.
المشورة المالية
إلى جانب الاستخدام المباشر من قبل العملاء، يمكن لروبوتات الدردشة التوليدية القائمة على الذكاء الاصطناعي من خلال فحص تفاعلات ومعاملات العملاء في الوقت الفعلي، تقديم بيانات ثاقبة حول سلوكيات وتفضيلات العملاء المحددة، والتي يمكن للمستشارين الماليين استخدامها بعد ذلك لتقديم تجارب أكثر تخصيصاً.
تحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي بيانات العملاء الضخمة، بما في ذلك تاريخ المعاملات وأرصدة الحسابات وأنماط الإنفاق ومحافظ الاستثمار والأهداف المالية، لبناء ملف تعريف شامل للعملاء. يسمح هذا الأمر للمصارف بتعزيز عمليات الخدمة الخاصة بها من خلال تقديم توصيات مخصصة للغاية بناءً على ظروفها المحددة، وإنشاء خطط مالية مخصصة.
على سبيل المثال، أطلقت مؤسسة الخدمات المالية الأميركية "مورغان ستانلي" مساعداً للذكاء الاصطناعي يعتمد على "جي بي تي-4" والذي يسمح لمستشاريها الماليين البالغ عددهم 16 ألفاً بالوصول الفوري إلى قاعدة بيانات تحوي على نحو 100 ألف تقرير بحثي ووثيقة. ويهدف نموذج الذكاء الاصطناعي هذا إلى مساعدة المستشارين الماليين في العثور بسرعة على إجابات لاستفسارات الاستثمار والتمويل وتلخيصها وتقديم رؤى فورية مخصصة للغاية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكشف عن الاحتيال
مع وجود الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت المصارف مجهزة بصورة جيدة لتعزيز قدراتها على اكتشاف الاحتيال وتحسين تقييم الأخطار. وبمساعدة قليلة من المستخدمين البشريين، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي تحديد الشذوذ في المعاملات على الفور للاستدلال على أي نشاط احتيالي مثل المواقع والأجهزة الغريبة أو أنماط الإنفاق غير العادية، ووضع علامة تلقائياً على الأخطار المحتملة.
إضافة إلى ذلك، يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل شبكات "GAN"، إنشاء معاملات احتيالية اصطناعية لتوفير مجموعة أكثر تنوعاً من السيناريوهات لتدريب نماذج الكشف عن الاحتيال، وهذا ما أثبت أنه أمر بالغ الأهمية في تحسين قوة ودقة خوارزميات الكشف عن الاحتيال.
وأعلنت شركة "ماستركارد" الأميركية أخيراً عن إطلاق نموذج ذكاء اصطناعي جديد لتمكين المصارف من اكتشاف المعاملات المشبوهة على شبكتها بصورة أفضل. وبحسب الشركة فإن هذه التكنولوجيا جاهزة لمساعدة المصارف على تحسين معدل اكتشاف الاحتيال بنسبة 20 في المئة، مع وصول المعدلات إلى 300 في المئة في بعض الحالات.
أتمتة المهام الروتينية
تدور إحدى حالات استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي الأعلى قيمة في مجال الخدمات المصرفية حول أتمتة الأنشطة المملة التي كانت تتطلب في السابق مدخلات بشرية. ونظراً لقدرتها المحسنة على فهم السياق وتوليد نصوص باللغة الطبيعية وقدرات التلخيص والذكاء التنبئي، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي يعد بأتمتة وتبسيط معظم عمليات المكتب الخلفي لتحقيق كفاءة تشغيلية أكبر.
سيمكن هذا الأمر موظفي العمليات من التركيز على العملاء بدلاً من تحليل الأرقام، لذا تتوقع الشركة العالمية للاستشارات الإدارية "أكسنتشر" أن تشهد صناعة الخدمات المصرفية زيادة بنسبة 30 في المئة في إنتاجية الموظفين بحلول عام 2028.
ومن الأمثلة التي يمكننا ذكرها إطلاق شركة "فوجيتسو" ومجموعة "هوكوهوكو" اليابانيتين تجارب مشتركة لاستكشاف حالات استخدام واعدة للذكاء الاصطناعي التوليدي في العمليات المصرفية. وتتصور الشركتان استخدام التكنولوجيا لتوليد ردود على الاستفسارات الداخلية، وإنشاء وفحص مستندات الأعمال المختلفة وبناء البرامج.
وهناك مثال آخر يتمثل في شركة الخدمات المصرفية والمالية السنغافورية "أو سي بي سي"، التي أطلقت روبوت محادثة ذكي لموظفيها البالغ عددهم 30 ألفاً حول العالم بهدف أتمتة مجموعة واسعة من المهام التي تستغرق وقتاً طويلاً، مثل كتابة تقارير بحوث الاستثمار وصياغة ردود العملاء، وهذا ما ترك أثراً إيجابياً إذ أبلغ الموظفون عن زيادة معدل الإنتاجية خلال فترة التجربة بنسبة 50 في المئة.