رغم أرباحها القياسية، تواجه "آبل" واحدة من أعقد مراحلها مع تصاعد الانتقادات لسياساتها الاحتكارية، وتراجع زخم ابتكاراتها، وتوتر علاقتها بجمهورها والمطورين. الأسئلة باتت تطال ليس فقط منتجاتها، بل أيضاً رؤيتها وهويتها تحت قيادة تيم كوك.

في صيف العام الماضي، واجهت عملاقة التكنولوجيا "آبل" أحد أصعب امتحاناتها، عندما وجدت نفسها مضطرة إلى إثبات قدرتها على مواكبة زخم صناعة التكنولوجيا المندفعة بسرعة فائقة نحو الذكاء الاصطناعي بكل ما صاحبه من ضجة واهتمام ووعود. وخلال مؤتمرها العالمي للمطورين لعام 2024، الحدث السنوي الذي تكشف فيه عن تحديثات برمجياتها، برزت تساؤلات عدة من مستثمرين ومحللين وغيرهم حول ما إذا كانت الشركة ضلت طريقها وتخلفت عن اللحاق بركب المنافسة.

أما هذا العام، فتواجه "آبل" تحدياً من نوع آخر، يبدو في ظاهره أكثر وضوحاً، ولكنه في الحقيقة ربما يكون شديد التعقيد. هذه المرة، عليها أن تنافس نفسها وتحافظ على مستوى التميز الذي حققته سابقاً.

تقيم الشركة "المؤتمر العالمي للمطورين" (WWDC) لهذا العام في بيئة تتسم بمنافسة أشد وتعقيداً أكبر مقارنة بالعام الماضي، الذي لم يكن بدوره خالياً من التحديات الصعبة أيضاً، وستشكل استجابتها لهذا التحدي عاملاً حاسماً في رسم مسارها وتحديد مستقبلها لعقود مقبلة.

في الظاهر، لا يبدو أن "آبل" تمر بأية أزمة، فما زالت الشركة تحقق أرباحاً ضخمة إلى حد أن أنجع وسيلة لاستثمار تلك العائدات تتمثل في إعادة شرائها أسهمها. وما انفكت أجهزتها، خصوصاً حواسيب "ماك"، تتجاوز أقصى ما يسع التكنولوجيا بلوغه اليوم سواء من حيث الأداء التقني أو المبيعات، وتحظى بإشادات واسعة من النقاد والمستخدمين. فالطلب على منتجاتها ما زال قوياً، وعندما يقتنيها الناس ينخرطون بطبيعة الحال في منظومة خدماتها الرقمية المتنوعة [من "آي كلاود" إلى "آب ستور" و"آبل كير"، وغيرها]، حتى أنها أعلنت هذا الأسبوع فقط أن متجر التطبيقات "آب ستور" App Store أسهم في معاملات ومبيعات بلغت قيمتها 1.3 تريليون دولار.

ولكن عدداً من التهديدات والتساؤلات تلوح في الأفق، وربما لم تشهد "آبل" مثيلاً لها منذ أن تولى تيم كوك قيادة الشركة. راهناً، تطرح الهيئات التنظيمية والجهات المطورة أسئلة متزايدة حول مدى أحقية "آبل" في الاستحواذ على هذه الحصة الضخمة من من عائدات "متجر التطبيقات"، إذ تحتفظ الشركة حالياً بنسبة 30 في المئة من كل عملية شراء رقمية تأخذ مجراها عبر أجهزة "آيفون"، علماً أنها مصدر أرباح ضخمة يرى كثيرون أنه يقوم على ممارسات احتكارية غير منصفة.

"المؤتمر العالمي للمطورين"، سمح العام الماضي للشركة باستعراض جهودها في مجال الذكاء الاصطناعي تحت شعار"آبل إنتليجنس" Apple Intelligence. في البداية، كان العرض مثيراً للإعجاب، ولكن كثيراً من الميزات الأكثر جذباً، مثل إعادة التصميم الكاملة للمساعد الذكي "سيري" Siri كي يصبح أكثر فائدة وكفاءة بأشواط، تأخرت من دون تحديد موعد نهائي واضح. أما أحدث فئة من منتجات الشركة، المتمثلة في سماعتي الرأس "فيجن برو" Vision Pro، فلم تحقق انتشاراً واسعاً بين الجمهور، في حين أن مشاريع أخرى كنا سمعنا عنها كثيراً، مثل العمل المكلف على صناعة سيارة، لم تر النور على الإطلاق.

حتى المنتقدون الذين اعتادوا مدح "آبل" بدأوا يطرحون تساؤلات دقيقة حول مستقبل الشركة، وأخذ بعضهم يتساءل عما إذا كان عهد تيم كوك، الذي جعل من "آبل" الشركة الأعلى قيمة في العالم، ومن "آيفون" المنتج الاستهلاكي الأنجح، وأنشأ منظومة إنتاج عالمية له، اقترب من نهايته، وما إذا كان من الضروري أن يتولى شخص جديد زمام الأمور.

وفي غمرة هذه الحماسة، لا يكمن التحدي الأكبر أمام "آبل" في عرض ابتكار جديد. (مع أنها تعتزم ذلك، إذ تشير أقاويل إلى إعادة تصميم شاملة لأنظمة تشغيلها، ولكن ميزات الذكاء الاصطناعي الجديدة ستكون متواضعة). بل يكمن التحدي الحقيقي في خطوة ربما تتسم بصعوبة أكبر: توحيد أركان الشركة المختلفة ومجتمعها حول رؤية واحدة متماسكة.

كثيراً ما جمعت "آبل" بعملائها علاقة استثنائية وغير مألوفة، إذ إن قلة قليلة من الشركات يسعها تنظيم فعاليات لإطلاق المنتجات تضاهي في حجمها وإبهارها إنتاجات هوليوود العالمية، فعاليات كانت حتى وقت قريب تشهد لحظات مؤثرة يصفق فيها العملاء ويبكون فرحاً عند استقبالهم في متاجر الشركة يوم الإطلاق. ومن نواح عدة، يتعامل الناس مع "آبل" كما لو أنها فريق رياضي أو نجم مشهور.

ولكن في الآونة الأخيرة، تعرضت تلك العلاقة لشرخ ما. مثلاً، كتب جون غروبر، صاحب مدونة "ديرينغ فايربول"، علماً أنه أحد أبرز المنتقدين الإيجابيين للشركة، في مارس (آذار) أن ثمة "خللاً ما في كوبرتينو"، المدينة التي تحتضن مقر "آبل". وكانت حجته أن الشركة أحدثت قطيعة جذرية مع الصحافة والجمهور، عندما استعرضت ميزات الذكاء الاصطناعي تلك بطريقة توحي بأنها ستطرحها قريباً، في حين تبين لاحقاً أنها لم تكن قريبة من الجاهزية أصلاً.

وعلى نحو مماثل، يبدو أن تشدد "آبل" في اقتطاع حصتها من عائدات المطورين ولد حالاً من الإحباط لدى الطرفين، لا سيما عندما دخلت الشركة في مواجهة علانية مع "إيبك" Epic، الشركة المطورة للعبة الإلكترونية الشهيرة "فورتنايت" Fortnite، في شأن نسبة الأرباح التي يحق لعملاقة التكنولوجيا الحصول عليها من كل عملية شراء. وجذبت تلك المواجهات الصريحة اهتمام الهيئات التنظيمية والمحاكم، التي ربما تجبر "آبل" على التراجع عن بعض سياساتها الأشد صرامة، مما قد يترتب عليه خسائر مالية، من دون أن تستعيد الشركة ثقة المجتمع التكنولوجي ورضا الجمهور.

حتى منتجات وخدمات "آبل" المتوفرة حالياً ربما تحتاج إلى قدر أكبر من التماسك وتحسين الكفاءة والأداء بدلاً من السعي المستمر وراء الابتكار المتسارع، صحيح أن الشركة تخطط لإدخال تغييرات كبيرة على أجهزتها، من بينها تصميم بصري جديد وشفاف يشمل مختلف أنظمة تشغيلها، إلا أن أعطالاً صغيرة ومشكلات في الموثوقية باتت تشوب هذه الأنظمة نفسها. وربما من الأفضل لها أن تخصص عاماً لإعادة الضبط والتحسين، كما فعلت في عام 2009، عندما أطلقت نظام التشغيل "ماك أو أس سنو ليوبارد"MacOS Snow Leopard  وروجت له بشعار "صفر ميزات جديدة" zero new features.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الوقت نفسه، لا تتحمل الشركة المسؤولية الكاملة عن بعض المشكلات التي تواجهها. تيم كوك، الذي وبغض النظر عن السمعة الأخرى التي ربما اكتسبها اتسم ببراعة لافتة في إدارة العمليات التشغيلية، ظهر في البداية أنه تعامل بمهارة وحنكة مع الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، محققاً صفقة جيدة للشركة على رغم اعتمادها الكبير على التصنيع الصيني، إلا أن ترمب عاد وهدد لاحقاً بفرض رسوم جمركية ضخمة على الشركات، مما قد يؤدي إلى زيادات كبيرة في أسعار هاتف "آيفون" الجديد المرتقب طرحه في سبتمبر (أيلول) المقبل.

سبق أن واجهت "آبل" هذا النوع من علامات الاستفهام. في عام 2026، بدأت مبيعات "آيفون" في التباطؤ، فردت الشركة بطرح هاتف "آيفون إكس" المبتكر. وخلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن الـ21، بدأ بعضهم يسأل ما إذا كانت "آبل" ما زالت ملتزمة بجدية بدعم مجموعة أجهزة "ماك، خصوصاً بعد تراجع المبيعات وظهور مشكلات عدة من بينها الأعطال المتكررة في لوحات المفاتيح، ولكن الشركة استمعت جيداً إلى عملائها وأطلقت من تصميمها الخاص [من دون الاعتماد على شركات أخرى مثل "إنتل] شريحة معالجة إلكترونية جديدة تماماً لأجهزة الحاسوب هذه، مما أعاد لسلسلة "ماك" بريقها وقاد إلى انتعاش لافت في المبيعات والسمعة على حد سواء.

أما هذه المرة، فالتساؤلات والشكوك لا تدور حول المنتجات بقدر ما تنصب على السياسات، والتحدي المطروح لا يتطلب من "آبل" أن ترد بابتكار جديد، بل يستدعي منها إعادة ترتيب أوراقها وتعزيز التماسك داخل أركانها. على الأرجح، تقف عملاقة التكنولوجيا اليوم عند أحد أكبر المنعطفات في تاريخها، وطريقة استجابتها له ربما ترسم ملامح مستقبلها. ومع انطلاق مؤتمرها العالمي للمطورين العالميين بكلمة افتتاحية يوم الإثنين، تحظى "آبل" بفرصة ثمينة توضح فيها للعالم كيف تنوي التصدي لهذا التحدي المصيري.

© The Independent

"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
"آبل" أمام اختبار القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي
أعلن في شمرا