زمن الهزل والفقاعات الإعلامية.. من يتهم من!

غادرت نائبة وزير الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند، الأراضي الروسية دون تقارب في المواقف الروسية الأمريكية، إلا أن المباحثات، وفقاً للتصريحات الرسمية، كانت "مثمرة".

وعلى الرغم من عدم حدوث تقارب في المواقف الروسية الأمريكية أثناء محادثات نولاند مع نظيرها الروسي، نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، إلا أنه بإمكاننا تقييم المحادثات بالإيجابية والضرورية لتوضيح المواقف بشأن مستقبل العلاقات الثنائية والقضايا الدولية الأخرى.

ولعل أهم ما يمكن الإشارة إليه هو الصراحة التي تميزت بها المباحثات، والتي أوضحت للطرفين أسباب وحجم التباعد، وما يعيق التقارب والتعاون في حل القضايا المعقدة، ومن بينها قضايا منطقة الشرق الأوسط.

لقد أسهم لقاء القمة بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، الصيف الماضي، في دحرجة الكرة إلى ملعب المسؤولين رفيعي المستوى من الطرفين، وهو ما يجعل الجميع في انتظار الخطوات التكتيكية الواضحة، التي يمكن أن تجعل المنافسة سليمة وعادلة وشفافة، تراعي قوانين هيئة الأمم المتحدة في حل جميع القضايا الدولية المختلف عليها. وليكن التفاؤل، ولو حتى "الحذر"، هو الغالب لدى الجميع، على الرغم من التصريحات الشاذة التي صدرت مؤخراً عن ممثلين في البيت الأبيض، التي تتهم موسكو باستخدام إمكانياتها الضخمة من الثروات الطبيعية كالغاز وغيره سلاحاً وأداة للضغط لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما نفاه الرئيس الروسي، يوم أمس الأربعاء، خلال مؤتمر الطاقة الدولي في موسكو، معلناً بأن روسيا "لا تستخدم الطاقة كسلاح"، حيث قال بوتين إن "روسيا لا تستخدم أي أسلحة. حتى خلال أصعب فترات الحرب الباردة، أوفت روسيا بانتظام بالتزاماتها التعاقدية وزوّدت أوروبا بالغاز"، واصفاً الاتهامات ضد روسيا بأنها "ذات دوافع سياسية" دون أن يكون هناك ما يدعمها من أدلة.

كذلك كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، قد أوضح، خلال لقاء عبر الإنترنت مع ممثلي رابطة قطاع الأعمال الأوروبي بأن شركة "غاز بروم" الروسية، لا تزال تزوّد أوروبا بالغاز بموجب عقود طويلة الأجل، وأنها تفي بجميع التزاماتها، ليس فقط بالكامل، وإنما بزيادة عن المتفق عليه. كما شدد الوزير الروسي على أن أحد أسباب أزمة الغاز الحالية هو تصرفات المفوضية الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تجاه خط "السيل الشمالي-2"، مذكّراً بأن واشنطن مارست أقوى ضغط خلال السنوات الماضية على دول مختلفة، بما في ذلك ألمانيا، كي تبني محطات لتلقّي الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، والآن، بعد أن تم بناء هذه المحطات في ألمانيا، يجري تصدير الغاز المسال إلى آسيا وأمريكا اللاتينية.

لقد أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية صراحة عن أن التعاون الروسي الأوروبي يتعارض مع مصالح أمن الطاقة في أوروبا، بينما تريد الولايات المتحدة إثارة الخلاف بين روسيا وأوروبا بشأن قضية الغاز، في الوقت الذي تعتمد فيه أوروبا بنسبة 35% على الغاز الروسي.

في سياق مواز، تشن واشنطن ووسائل الإعلام الغربية هجمة شرسة على روسيا، في الأيام الأخيرة، وتصف الأسلحة الروسية الدفاعية فرط الصوتية، التي أجريت تجاربها الناجحة مؤخراً، بالهجومية، والمهددة لأمن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. تنسى وسائل الإعلام تلك أو تتناسى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من انسحبت من معاهدة الصواريخ المضادة للبالستية (2002)، ومن معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (2019)، ومن معاهدة السماوات المفتوحة (2020).

تنطلق الحملة الغربية على روسيا، باتهامات لا أساس لها من الصحة، دون أن يصطبغ وجه أي من السياسيين والصحافيين والمحللين المحترمين بحمرة الخجل، بعد إهدار أكثر من تريليون دولار في أفغانستان، والانسحاب الفوضوي المخزي للقوات الأمريكية من هناك، وما نراه من تداعيات مقلقة في أفغانستان ومحيطها الإقليمي، علاوة على ما يمثله ذلك من تهديد للأمن العالمي، واحتمال استخدام الأراضي الأفغانية منطلقاً للإرهاب الدولي، واستخدام ترسانة الأسلحة الأمريكية، التي خلفتها الولايات المتحدة في أغراض عدوانية.

حول ذلك، صرح وزير الخارجية الروسي، خلال اجتماع لوزراء خارجية الدول المشاركة في مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا، الذي عقد في كازاخستان، بأن حلف الناتو يسعى بعد مغادرة أفغانستان إلى إعادة نشر قواته في دول آسيا الوسطى، إضافة إلى إرسال اللاجئين إلى المنطقة، وهو ما تعارضه موسكو. وأضاف أن "التحالفات الجيوسياسية في المنطقة لا تصبح أقل تعقيداً، ما يعيق انتقالها إلى نظام منسّق للتعاون والتكامل الشامل متعدد الأطراف"، مشيراً إلى أن هناك محاولات متعمدة لتسخين الموقف، بهدف تقويض الآليات القائمة للتفاعل المتبادل بين الدول.

كذلك أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال لقائه يوم أمس، الأربعاء، رؤساء أجهزة الاستخبارات لرابطة الدول المستقلة، على أن "الإرهابيين من العراق وسوريا يتجمعون في أفغانستان"، وبإمكانهم محاولة زعزعة استقرار الوضع في بلدان رابطة الدول المستقلة، ولابد، بهذا الصدد، من مراقبة الوضع على الحدود الأفغانية باستمرار، والاستعداد لمواجهة المسلحين، وتنسيق عمل جهات إنفاذ القانون، وإجراء عمليات خاصة مشتركة مع تلك الدول إذا لزم الأمر.

تطال الحملة الإعلامية الغربية كذلك الدور الروسي في سوريا، والمهمة العسكرية لمحاربة الإرهاب الدولي هناك، وتنزلق إلى ذلك بعض المواقع العربية التي تنقل ما تردده وسائل الإعلام الغربية، دون تدقيق أو مراجعة، وهو ما يجافي الحقيقة والواقع على الأرض. فمن يتعرف على روسيا، وعلى عقيدة الجيش الروسي، لا يساوره أدنى شك باستحالة أن يقوم الجيش الروسي بأي عمليات قتالية أينما وحيثما كان ذلك مشوباً باحتمال إصابة مدنيين، لا علاقة لهم بالإرهاب.

كذلك فإن مهمة روسيا محددة في سوريا، وهي القضاء على مجموعات تصنف دولياً بأنها إرهابية، ومساعدة سوريا في ألّا تتحول إلى دولة فاشلة، لذلك يبدو غريباً ألّا يدرك بعض السوريين أهمية وخطورة هذه المهمة، حفاظاً على وطنهم من الضياع، ويبدو عصيّاً على الفهم عدم تصوّر البعض لما كان سيحل بالبلاد والعباد لولا التدخل الروسي.

على خلفية هذه الحملة الإعلامية الغربية، وكما يحدث دائماً عند اللحظات المفصلية، تسعى بعض الأطراف لإحداث شرخ في مثلث أستانا (روسيا، إيران، تركيا)، الذي كان له الفضل في التوصل لاستقرار مبدئي على الأراضي السورية. إلا أن الشكل الهندسي للمثلث في نهاية المطاف، يتميّز، وفقاً لقواعد الفيزياء، ومنطق الطبيعة، وتوازن القوى السياسية والعسكرية على الأرض، بتوازنه واستقراره، مهما احتدم الجدل والخلاف بين أي من الأطراف.

من بين ذلك ما نلاحظه بوضوح من استهداف الإعلام، إلى جانب روسيا، الهدف المفضل والمستدام، العلاقات الروسية التركية، وبخاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية، بعد أن فشل هؤلاء في استهداف ملفّي شبه جزيرة القرم، وإدلب خلال اللقاء الذي جمع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والتركي، رجب طيب أردوغان في 29 سبتمبر الماضي بمدينة سوتشي الروسية.

وكان وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره من نيكاراغوا، دينيس مونكادا كوليندرس، يوم أمس الأربعاء 13 أكتوبر الجاري، قد حمّل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا المسؤولية عن عدم الوفاء بالتزاماتهما بشأن كبح جماح المقاتلين الأكراد في سوريا، حيث أشار أوغلو إلى أن "وحدات حماية الشعب" الكردية، التي تعتبرها أنقرة تنظيماً إرهابياً مرتبطاً بـ "حزب العمال الكردستاني" قد كثّفت هجماتها ضد تركيا، وبدأت في إطلاق قذائف يصل مداها إلى 30 كيلومتراً باتجاه الأراضي التركية، وهو ما يخالف التزام الولايات المتحدة وروسيا بإبعاد المقاتلين الأكراد عن الحدود التركية لمسافة لا تقل عن 30 كيلومترا. وعليه، قال الوزير إن على تركيا أن "تحل القضية بنفسها، وتضمن أمن هذه المناطق"، متعهداً بأن أنقرة "ستتخذ كل الخطوات اللازمة لإزالة المخاطر التي تواجهها تركيا من سوريا".

من جانبه، لوّح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال مؤتمر صحفي، عقب رئاسته اجتماعاً للحكومة في أنقرة، بـ "اتخاذ اللازم"، للقضاء على التهديدات في الشمال السوري، إمّا عبر القوى الفاعلة هناك أو بإمكانات أنقرة الخاصة، مؤكّداً أن الهجوم الأخير الذي استهدف القوات التركية شمال سوريا كان "القشة التي قصمت ظهر البعير".

كانت تلك التصريحات كفيلة بإطلاق سيل من التحليلات والتكهنات بشأن "خلافات كبيرة بين تركيا وروسيا، و"عملية عسكرية تركية، تشمل مناطق كثيرة، في شمال سوريا خلال الأيام المقبلة"، تبعتها حملة إعلامية، تأتي في توقيت دقيق للغاية، قبل أيام من انطلاق الجولة السادسة لاجتماع اللجنة الدستورية المصغرة في جنيف، بعد ثمانية أشهر من العمل المكثّف مع الرئيسين المشاركين للجنة، والاتفاق على منهجية عمل اللجنة، وعقب لقاءات رفيعة المستوى بين الدول الراعية للعملية السياسية، وعلى رأسها دول مسار أستانا.

إن روسيا، التي توصف مساعيها في وسائل الإعلام الغربية، وبعض وسائل الإعلام العربية، بالمزعزعة للاستقرار، والخطرة، والمقلقة، تمتلك 9 قواعد عسكرية خارج حدود أراضيها، 8 منها في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق في أبخازيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقيرغيزستان وترانسنيستريا وطاجيكستان وأوسيتيا الجنوبية، وواحدة في سوريا. أما الولايات المتحدة الأمريكية فتمتلك، وفقاً لبعض الإحصاءات، 750 قاعدة منتشرة في 81 دولة حول العالم. كذلك فقد تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قائمة أكبر دول العالم من حيث النفقات العسكرية، لعام 2020، والتي بلغت 778 مليار دولار، بينما حلّت روسيا رابعة بعد الولايات المتحدة والصين والهند، وبلغت نفقاتها العسكرية 61.7 مليار دولار.

لهذا، فمن المضحكات المبكيات، أن تتهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي يبلغ حجم إنفاقها العسكري أكثر من عشرة أضعاف الإنفاق العسكري الروسي، روسيا بالسلوك العدواني، والخطر على أوروبا، والتوسع الإقليمي والدولي، وامتلاك أسلحة "هجومية"، وزعزعة الاستقرار الإقليمي والعالمي.

لكن ماذا عسانا نقول، فهو زمن الهزل والفقاعات الإعلامية.

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب

أعلن في شمرا

الأكثر قراءة