مما لا شك فيه أن العمل مؤثر ومؤلم، لمشاهد لا يعرف حقيقة ما حصل، ولا يعرف شيئاً عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، خاصة باعتماد المخرج على اللقطات القريبة والخطاب العاطفي، وإظهار بكاء الناجين، وذكرياتهم الأليمة عن ذلك اليوم، لكن الأمر مختلف لدى مشاهد يعرف حقيقة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، شنت حركة "حماس" عملية عسكرية أطلقت عليها "طوفان الأقصى"، صوب مختلف المستوطنات الإسرائيلية، واقتحاماً برياً عبر السيارات رباعية الدفع والدراجات النارية والطائرات الشراعية للبلدات المتاخمة للقطاع، التي تُعرف باسم "غلاف غزة"، حيث سيطروا على عدد من المواقع العسكرية. ونتج من تلك العملية مقتل أكثر من 1500 إسرائيلي، وأسر نحو 230.
ومن المواقع التي هاجمتها "حماس" حفلة موسيقية في صحراء النقب أو كما يطلق عليه مهرجان رعيم الموسيقي. والحفلة التي بدأت كاحتفال بالحب لـ3500 إسرائيلي ورعايا أجانب آخرين، انتهت بمقتل 364 واحتجاز 44 آخرين كرهائن.
وفي محاولة لتوثيق ما حصل جمع المخرج ياريف موزر، شهادات من ناجين، واستعان بكل ما أتيح له من فيديوهات صورت في ذلك اليوم، مع لقطات من كاميرات المراقبة والهاتف المحمول، لتقديم وثائقي عما حصل.
الفيلم الذي عرضته أخيراً "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي)، "سنرقص مجدداً" (We will dance again) يقدم وجهة نظر واحدة عما حصل، لا رأي آخر في العمل. وهنا يطرح سؤال ضروري، أين الموضوعية؟ وكيف نقدم أفكاراً ثبت زيفها لاحقاً؟ مثل قضايا الاغتصاب التي اتهمت بها "حماس"، أو ارتفاع عدد القتلى بسبب قصف طائرة حربية المدنيين في مهرجان سوبرانوفا، بحسب تحقيق أولي للشرطة الإسرائيلية كشفت عنه صحيفة "هآرتس".
إذاً نحن أمام عمل من وجهة نظر واحدة، وهو عمل مثالي لترويج الرواية الإسرائيلية في الغرب، إذ عرض الفيلم في الولايات المتحدة وعلى منصة "باراماونت+"، قبل أن تبدأ "بي بي سي" ببثه وهي التي كلفت المخرج بإعداده.
يقدم العمل لمحة عن الاعتداء على رواد مهرجان نوفا الموسيقي، أحد المواقع التي هاجمتها "حماس". وحرص المخرج على مشاركة القصص الشخصية المعبرة للغاية لأولئك الذين عاشوا وأولئك الذين ماتوا عندما تحول الارتباك إلى خوف، ثم إلى فوضى.
الرواية
ويقدم العمل قصص الناجين، وأين اختبأوا تحت المسرح، في الثلاجة، في المراحيض ومكب مليء بالقمامة. ويعتمد الفيلم على الساعات الست الأولى التي قضاها الناجون في الاختباء.
وتكشف تسجيلات مكالمات الطوارئ التي أجراها رواد الحفلة للجيش الإسرائيلي والشرطة وخدمة الإسعاف بالتفصيل مستوى الارتباك وعدم الفهم الذي قابل صرخات الاستغاثة التي أطلقها هؤلاء.
مما لا شك فيه أن العمل مؤثر ومؤلم، لمشاهد لا يعرف حقيقة ما حصل، ولا يعرف شيئاً عن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، خاصة باعتماد المخرج على اللقطات القريبة والخطاب العاطفي، وإظهار بكاء الناجين، وذكرياتهم الأليمة عن ذلك اليوم.
لكن الأمر مختلف لدى مشاهد يعرف حقيقة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وما كان يعانيه ساكنو قطاع غزة الذين كانوا يعيشون فعلياً بسجن كبير. الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن الجميع يرفضون استهداف المدنيين، ومدان ما فعلته "حماس" من استهداف وقتل لمدنيين، لكن كيف كان مثلاً رد الفعل الإسرائيلي؟ دمر الجيش غزة، وقتل أكثر من 41 ألف فلسطيني، غالبيتهم العظمى من المدنيين وبخاصة النساء والأطفال.
تعريف
وفي تعريف بسيط للفيلم الوثائقي أو التوثيقي، نجد أنه عمل يعرض فيه مخرجه حقيقة علمية أو تاريخية أو سياسية، بصورة حيادية ومن دون إبداء رأي فيها.
ويضم الوثائقي سرداً تاريخياً أو سياسياً لمواقف سجلت سابقاً، أو نكبات أو حروب حصلت في الماضي أو الحاضر القريب. وهذا ما لم يحصل في "سنرقص مجدداً"
وهنا تظهر نقطة ضعف العمل الأكثر، الخروج من السياق التاريخي للأحداث، إذ ركز الفيلم فقط على أولئك الذين حضروا المهرجان، وهو واحد فقط من المواقع التي استهدفتها "حماس" في ذلك اليوم (قُتل 364 من حضور المهرجان، أي ما يقارب ثلث إجمالي القتلى الإسرائيليين). ويصف أحد الناجين تجربته بأنها "أشبه برؤية فيلم رعب بأم عينيك".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو واضحاً أن مخرج الفيلم اختار عدم مناقشة كل ما يتعلق بما حصل، اكتفى فقط بالخطاب العاطفي للناجين. لم يذكر مثلاً لماذا تأخرت الشرطة عن مساعدة الناجين، وكيف أجابت على اتصالات المستغيثين، ولا عن إفادات قدمها إسرائيليون، أمام ما تسمى لجنة "تدقيق الدولة" في الكنيست، عن انتحار نحو 50 إسرائيلياً كانوا قد نجوا من الهجوم الذي نفذته حركة "حماس".
ويقول أحد الأشخاص الذين شاركوا في المهرجان غاي بن شمعون، إن هناك ما يقارب 50 حالة انتحار بين ناجين من هجوم "حماس" بسبب الصدمة النفسية التي أصابتهم.
وكشفت ناجية أخرى عن إجرائها فحصاً طبياً ومعاناتها حالة صحية سيئة جعلتها لا تنام أكثر من ساعتين في الليل، لافتة إلى معاناتها اضطرابات نفسية تدفعها للاتصال بالشرطة لو اقترب منها أي شخص لوقت طويل.
وكانت صحيفة "هآرتس" كشفت عن أن مروحية للجيش أطلقت النار على إسرائيليين في "مهرجان نوفا" خلال محاولتها استهداف مقاتلين فلسطينيين وصلوا إلى مكان الحفلة، وهذه مثلاً من النقاط الخلافية التي لم يتطرق إليها المخرج.
ومع ذلك، فإن ادعاءات الاغتصاب اتخذت طابعاً خاصاً بها، حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن زعم خلال خطاب ألقاه بعد أيام مما حصل، أن النساء "تعرضن للاغتصاب والاعتداء والاستعراض على شكل تذكارات" من قبل مقاتلي "حماس".
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مقال صحيفة "The Forward" في الـ11 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ذكر أن الجيش "الإسرائيلي" أقر بأنه ليس لديه أي دليل على مثل هذه الادعاءات في ذلك الوقت.
وعندما قدم الجيش في وقت لاحق، مزاعمه عن قطع الرؤوس وبتر الأقدام والاغتصاب، أشارت "رويترز" إلى أن "الأفراد العسكريين الذين يشرفون على عملية تحديد الهوية لم يقدموا أي أدلة جنائية في شكل صور أو سجلات طبية". وحتى الآن لا يوجد أي دليل موثوق به على هذه الفظائع.
يقول مخرج الفيلم ياريف موزر، إنه اضطر إلى الاتفاق مع هيئة الإذاعة البريطانية على عدم وصف "حماس" كمنظمة إرهابية إذا أراد أن يتم بثه، وفقاً لمقابلة أجراها مع صحيفة "هوليوود ريبورتر".
ويضيف إن هذا كان تنازلاً اضطر إلى تقديمه إذا أراد أن يشاهد الجمهور البريطاني الفيلم، "لقد كان ثمناً كنت على استعداد لدفعه حتى يتمكن الجمهور البريطاني من مشاهدة هذه الفظائع ويقرر ما إذا كانت هذه منظمة إرهابية أم لا".
ويوضح موزر أنه عرض الفيلم الوثائقي على عدد من منصات البث في الولايات المتحدة ومع ذلك قيل إنهم لم يرغبوا في عرضه بسبب مخاوف في شأن الوضع السياسي، "الفيلم ليس سياسياً، إنه مروي من عيون الناجين ومن عيون "حماس". هناك حقيقة واحدة حول ما حدث".
وفي حديثه عن محتوى الفيلم، والمداولة حول استخدام لقطات مصورة وعنيفة، يقول موزر إنه "أراد الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من اللقطات ليتمكن من إظهار مدى ضخامة حجم هذا الهجوم ووحشية هذه الفظائع ضد أشخاص لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم".
أعمال وثائقية
لا يعتبر "سنرقص مجدداً"، الوثائقي الأول الذي قدّم حول ما جرى، إذ سبقه إلى ذلك "سوبرنوفا: مذبحة المهرجان الموسيقي" للمخرج الإسرائيلي دوكي درور الذي تميل أفلامه إلى تناول المواضيع الجيوسياسية في الأعوام الأخيرة.
ويقول درور "كان الأمر صعباً حقاً. أعتقد أنه أصعب فيلم صنعته، هذا الفيلم كان قاسياً حقاً، وصعباً جداً من الناحية العاطفية".
ينقل فيلم "سوبرنوفا"، الذي تبلغ مدة عرضه أقل من ساعة، مشاعر الرعب الناجمة عن الهجمات التي وقعت في الحفلة، ويروي القصة من خلال التركيز على ستة من رواد المهرجان الذين نجوا من الهجوم، وجميعهم في سن المراهقة وفي العشرينيات من عمرهم، إضافة إلى رجلين بالغين، أب تم اختطاف ابنه وابنته في ذلك اليوم وتم إطلاق سراحهما في النهاية، وشرطي كان له الفضل في إنقاذ 150 شخصاً.
والفيلم الثالث هو "صرخات قبل الصمت" لشيريل ساندبرج، مدير العمليات السابق (COO) في ميتا، أجرى مقابلات مع الخاطفين المحررين والمستجيبين الأوائل وخبراء الطب الشرعي والناجين مما حصل في السابع من أكتوبر 2023.
لن تكون هذه الأفلام الثلاثة وحيدة، إذ غالباً ما تستفيد إسرائيل من الأحداث لتدعيم خطابها الإعلامي وبخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، لذلك قد نشهد أفلاماً جديدة عما حصل مثلاً لحظة اقتحام مقاتلي "حماس" بعض المستوطنات، أو كيف تصدى رجال الشرطة للهجوم، أو اختيار بعض المواقف البطولية لإسرائيليين وكيفية تصديهم ومقاومتهم للحركة المصنفة على لائحة الإرهاب.