تغيير الذكاء الاصطناعي وجه سوق العمل وإقصائه شرائح كامل من الشباب وشيك
في ندوة عقدتها أخيراً مجموعة من قادة الأعمال، خيم صمت مهول للحظات، عندما قال الرئيس التنفيذي لإحدى شركات البرمجيات إنه يأمل في أن تصبح كلفة توظيف البشر باهظة جداً، نتيجة الضرائب والتشريعات التنظيمية، فيضطر حينها عدد أكبر من أصحاب الشركات والمديرين إلى استبدال التكنولوجيا بموظفيهم.
كنا قد انتهينا تواً من نقاش حول الذكاء الاصطناعي، واحتمال أن يفضي إلى اختفاء وظائف كثيرة، وما سيخلفه ذلك من مشكلات اجتماعية وثقافية عميقة. بدا أننا جميعاً متفقون على أن التداعيات ستكون ضخمة ومقلقة. أو هكذا ظننت، إلى أن تحدث ذلك المدير التنفيذي، معبراً بوضوح عن سعادته بفكرة الاستغناء عن البشر والاستغناء عنهم. جمع الرجل أمواله من بيع أنظمة آلية ذكية، وكلما باع أكثر، ارتفعت أرباح شركته أكثر. المسألة بالنسبة إليه بسيطة. وكما قال هو نفسه: "سيكون نفاقاً أن أدعي غير ذلك".
في الأقل كان ذلك المتخصص صادقاً. في الواقع، كثير من المتخصصين في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يخشون المجاهرة بالحقيقة، ويؤثرون الاختباء وراء عبارات متملقة على شاكلة: "الأمور غير واضحة [ملتبسة]"، أو "من المبكر الجزم"، أو "لا نعرف بعد"، أو "لا بد من أن يدير أحدهم الذكاء الاصطناعي"، أو "بمساعدة الذكاء الاصطناعي سنتحرر من المهام التقليدية لنصبح أكثر إبداعاً"، أو أن "وظائف جديدة لم نسمع بها بعد ستعوض تلك الوظائف التي ستتبدد [ستندثر]"... والقائمة تطول.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن بين حين وآخر، يخرج أحدهم ليقول الحقيقة الكامنة فعلاً في أذهانهم. هذا الأسبوع، كان دور شركة "آرتيسان" Artisan، وكالة متخصصة بالذكاء الاصطناعي في سان فرانسيسكو، أطلقت حملة إعلانية جريئة تدعو فيها إلى "التوقف عن توظيف البشر"، وتعلن أن "عصر الموظفين المدعومين بالذكاء الاصطناعي قد بدأ فعلاً". ولكن رئيس الشركة، جاسبر كارمايكل-جاك، أوضح لاحقاً أن الحملة كانت مجرد "استفزاز مقصود" لجذب الانتباه والأنظار، وأنها لا تعبر عن طموح فعلي إلى "إحراق" [إلغاء] جميع الوظائف البشرية.
مهما كانت النيات، فقد أصابت الحملة وتراً حساساً. سرعان ما انتشرت شعاراتها كالنار في الهشيم، وتعرضت لهجوم لاذع. وقد أصاب السياسي الأميركي بيرني ساندرز، في قوله تعقيباً على الإعلان: "إذا كانت الروبوتات ستحل محلنا جميعاً، فمن ذا الذي سيشتري السلع التي يقوم الاقتصاد الرأسمالي كله على بيعها؟ وإذا انهارت سوق العمل، هل تنهار معها الرأسمالية [النظام الرأسمالي ذاته]؟".
يا لها من مداخلة موفقة يا بيرني، غير أن رجال وادي السيليكون وأصدقاءهم الأثرياء لا يبالون بزوال الرأسمالية، إذ تراهم مستمرين في ضخ المليارات في صناعة الذكاء الاصطناعي بلا هوادة. مثلاً، في الربع الأخير وحده من العام، استثمروا ما يقدر بـ80 مليار دولار (أي نحو 61 مليار جنيه استرليني) في تطوير الذكاء الاصطناعي.
في الحقيقة، يجدر بنا التوقف عند هذا الرقم، 80 مليار دولار في خلال ثلاثة أشهر فحسب، من دون أي مردود واضح حتى الآن. إنها فقاعة، لا ريب. في أي لحظة ربما تنهار هذه الاندفاعة الجنونية، لتعم الفوضى ويتبعها ركود اقتصادي عالمي. ولكن مهلاً، هؤلاء ليسوا أناساً حمقى. إنهم يراهنون، وحساباتهم تفيد بأن بديلاً أقل كلفة بأشواط وأكثر كفاءة سيحل مكان رأس المال البشري، وعندها فحسب ستتدفق العوائد فعلاً، لتتجاوز الأموال التي استثمروها بأضعاف مضاعفة.
في نهاية المطاف، إنه ما يصبون إليه: أن يصبحوا، على غرار ذلك المدير التنفيذي في عالم البرمجيات إنما على نطاق أوسع. ويدرك هؤلاء أن الغضب الشعبي سينهال عليهم، ولكن ذلك لا يثنيهم عن رغبتهم في أن يتحقق هذا المسعى في المستقبل. هم في منأى [على خير ما يرام] ما داموا يملكون الخوارزميات والتطبيقات المبرمجة في صميم النظام. أما نحن... فلسنا في الحسبان.
في الوقت الراهن، يفترض بنا أن نهدأ. ما زال الوقت مبكراً، ولا أحد يعرف مآلات الأمور. يحاول البعض تهدئة المخاوف. فقد أشار بحث نهضت به "جامعة ييل" و"مؤسسة بروكينغز" في الولايات المتحدة إلى أن الوظائف لن تختفي بين ليلة وضحاها، مذكراً بأن دخول الكمبيوترات إلى سوق العمل استغرق أعواماً طويلة قبل أن يستتب أثره الكامل. ولكن الدراسة نفسها لا تذكر أن الوظائف ستبقى، بل تكتفي بالقول إن التأثير الكامل للذكاء الاصطناعي لم يتبد بعد [بيد أنه قادم لا محالة].
بدأت المؤشرات تظهر فعلاً، فموجات التسريح الجماعي التي تجتاح الشركات تتصاعد يوماً بعد يوم. وكانت " أمازون" الشركة الأحدث التي أعلنت عن موجة تسريح جديدة، إذ ألغت 14 ألف وظيفة، لتنضم بذلك إلى شركات أخرى سبقتها في الإعلان عن خفض أعداد موظفيها. وفي الوقت نفسه يسود تجميد واسع للتوظيف. وكما في حالات التسريح، ينحى باللائمة على الذكاء الاصطناعي. على الأرجح، ليست هذه الحقيقة كاملة، وأن خلف هذه الموجة دوافع أبعد وأكثر تعقيداً، غير أن الذكاء الاصطناعي يبقى العذر المستخدم في تسويغ هذه القرارات.
والأهم من ذلك كله، أن "أمازون" ستواصل توظيف نحو مليون و600 ألف شخص، أي أن عدد الوظائف التي قررت الاستغناء عنها لا يعدو كونه تفصيلاً ضئيلاً قياساً بهذا الرقم. ولكن السؤال الحقيقي: كم من هذه الوظائف سيبقى عندما يبدأ الذكاء الاصطناعي فعلاً في فرض حضوره؟ وقبل أن يقول أحد إن "سائقي الشاحنات والفانات سيحتفظون بوظائفهم"، فلنسأل أنفسنا: لمَ يبدو عمالقة التكنولوجيا متحمسين إلى هذا الحد لضخ الأموال في مشاريع السيارات الذاتية القيادة؟
يتقدم إيلون ماسك هذا المنحى، إذ كرر مراراً أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات يشكلان تهديداً بالغ الجدية لمستقبل الوظائف، متوقعاً أن تبلغ الأتمتة في نهاية المطاف مرحلة تجعل العمل البشري غير ضروري. ويتخيل ماسك مستقبلاً يتحرر فيه الإنسان من عبء الكد والعمل، ولكنه لم يوضح بعد كيف سيتمكن هؤلاء غير المشغولين بالأعمال والمهام من تأمين ثمن الطعام والتدفئة والملبس والمسكن، وسائر ضرورات العيش.
صحيح أن ماسك يقر بأن هذه التحولات ستكون مزعزعة وصادمة، وكأن هذا مقبول ولا يشكل مشكلة [عادي]. أما الماضون قدماً نحو هذا الكابوس فهم السياسيون، أولئك الذين يفترض بنا أن نعول عليهم طلباً للحماية والهداية (لا تضحكوا!). وحده بيرني ساندرز يبدو مدركاً تماماً لما يجري، ولا يخشى التصريح بمخاوفه. ولكن، هل يدرك الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس وزراء المملكة المتحدة كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين عقد كل منهم قمماً استثمارية كبرى حول الذكاء الاصطناعي، ويفاخرون بمليارات يضخونها في هذا القطاع في بلدانهم، مهما كانت النتائج على المدى البعيد؟
يتعاظم الخوف والقلق والاضطراب يوماً بعد يوم، من دون بذل أي جهد لكبح الاندفاع الجنوني نحو هذه الثورة الجديدة. ربما يبدو كلامي غريباً، ولكنني أكاد أرجو أن تنفجر هذه الفقاعة، وأن تتوقف الثورة الكبرى للذكاء الاصطناعي أو أقله أن تتباطأ عجلاتها. نعم، سيكون الثمن مؤلماً، ولكن لعل ألم اليوم يدرأ عنا معاناة أفدح غداً. لم أظن يوماً أنني سأكتب كلاماً من هذا القبيل، ولكن إن كان ثمة بديل فضلاً أرشدوني إليه؟
© The Independent