"زوروني كل سنة مرة"، على هذا النحو دعا الفنان الراحل سيد درويش عشاقه ومحبيه في واحدة من أشهر أغنياته قبل أكثر من قرن من الزمان، لنلبيها في مئوية وفاته ونزور بيته الواقع في قلب القاهرة، وتحديداً في منطقة جزيرة بدران بحي شبرا العريق، ذلك البيت الذي كان وجهة لرموز الفن المصري في مطلع القرن الـ20، وخرجت منه أشهر أعمال صاحبه الراحل.

السيد درويش البحر، أو كما يعرفه الناس باسم شهرته "سيد درويش"، هو أحد رواد النهضة الموسيقية في مصر والعالم العربي، إذ أدخل أشكالاً جديدة للغناء لم تعرف في الساحة الفنية من قبل أبرزها المسرح الغنائي.

ولد في مارس (آذار) من عام 1892 بالإسكندرية (شمال العاصمة)، والتحق في طفولته بمعهد ديني تابع لمسجد المرسي أبوالعباس الشهير ليبدأ في حفظ القرآن وتجويده، ليظهر لاحقاً اهتمامه بالموسيقي، وليبدأ في الغناء، وليلتحق بأعمال متعددة، إلا أن حبه للموسيقى سيطر عليه وبدأ تعلمها منذ ريعان صباه. كانت انطلاقته في عالم الفن عندما استمع إليه مصادفة الأخوان أمين وسليم عطاالله ولفت نظرهما جمال صوته، وكانا من أصحاب الفرق المسرحية في هذا الوقت ليصطحباه في رحلة فنية كانت نقطة التحول الكبرى في حياته، إذ تعلم كتابة النوتة الموسيقية والعزف ليظهر أول أدواره الموسيقية بعنوان "يا فؤادي ليه بتعشق"، وتبدأ مسيرته الفنية.

انطلق من بعدها إبداع سيد درويش في مجال الفن والموسيقى ليصبح أحد مجددي الموسيقى العربية التي نقلها من الشكل التطريبي الذي كان شائعاً إلى آفاق جديدة على رأسها التعبير. فحسب الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب "فإن الغناء في مطلع القرن الـ20 كان يعتمد على الكلمة وصوت المطرب بشكل رئيس، فأضاف سيد درويش العنصر الثالث للأغنية، وهو اللحن، مما أحدث ثورة ونقلة نوعية في طبيعة الأغنيات".

3.jpg

فنان الشعب

عرف سيد درويش بفنان الشعب، فعلى رأس إبداعاته الأغنية الوطنية التي قدمها بصورة جديدة، وربما للمرة الأولى بهذا المفهوم. فله إنتاجات غزيرة في هذا الشأن على رأسها النشيد الوطني المصري الحالي الذي لا يزال يردده الناس بلحن سيد درويش الذي وضعه قبل أكثر من 100 سنة.

عن إبداع سيد درويش في الأغنية الوطنية يقول حفيده الفنان محمد درويش لـ"اندبندنت عربية"، عاش سيد درويش في وقت كانت مصر فيه تحت الاحتلال، وعاصر ثورة 1919، مما ألهب حماسه الوطني ليبدع كثيراً من الأغنيات الوطنية التي لا تزال باقية حتى الآن. وقد أدخل ريتم المارش في الألحان الوطنية، وهو يضيف الحماس للأغنية بعكس الملفوف أو المقسوم. وتعد أشهر الأغنيات الوطنية التي قدمها "مصرنا وطنا سعدها أملنا، وقوم يا مصري، وأحسن جيوش في الأمم جيوشنا، ويا مصر يحميكي لأهلك، إضافة إلى أوبريت شهرزاد الذي كان كثير من ألحانه وطنياً، وكان هذا من أسباب نجاحه". يضيف، "في الثورات المعاصرة كان الناس يرددون ألحان سيد درويش الوطنية التي أبدعها قبل ما يقرب من قرن من الزمان، وهذا أكبر دليل على قيمتها وتأثيرها الوطني على مدى كثير من السنوات والأحداث والمواقف".

أعمال لم تظهر للنور

يضيف الحفيد "ما ظهر من أعمال سيد درويش ويعرفه الناس لا يتجاوز 30 في المئة من إنتاجه، وباقي أعماله محفوظ لدينا، فهناك 26 رواية محققة لسيد درويش لم تظهر للنور بأزجال ونوت موسيقية ونص درامي لا ينقصها سوى الإنتاج. فالناس لا يعرفون مسرحيات لسيد درويش غير شهرزاد والباروكة والعشرة الطيبة".

وأشار إلى أنه من الضروري أن تلتفت الجهات المسؤولة إلى هذا التراث المجهول، لأنه لا يخص تراث عائلة سيد درويش، ولكنه تراث للبلاد وثروة قومية ينبغي الحفاظ عليها، وأحد أوجه الحفاظ عليها هو خروجها للنور وتقديمها للجمهور". ويوضح "لا تقتصر الأعمال التي لم تخرج للنور على المسرحيات فقط، وإنما الألحان أيضاً، وبالفعل قدمنا من طريق فرقة تراث سيد درويش نحو 45 لحناً من أعماله للمرة الأولى، ولكن هناك غيرها كثير لم يظهر للنور بعد ويمثل ثروة فنية حقيقية، فسيد درويش سيرته واسمه باقيان بعد مرور 100 سنة على وفاته لعبقريته التي تركها، والجمهور لا يزال يردد كلماته وألحانه حتى اليوم، ونتمنى أن يكون حدث المئوية فرصة لإلقاء الضوء على مثل هذه الأعمال". 

4.jpg

منزل في قلب القاهرة

بدأ سيد درويش نشاطه الفني من الإسكندرية مسقط رأسه لينتقل بعدها إلى القاهرة التي كانت مركزاً للإبداع وعاصمة للفنون ليستقر في منزله الواقع بمنطقة جزيرة بدران الذي أبدع منه معظم أعماله وتراثه الفني، إذ كان هذا البيت ملتقى لكبار فناني هذا العصر الذي كان يشهد انطلاقه وصحوة فنية في مجالات الفنون كافة.

وعن بيت سيد درويش في القاهرة تقول الفنانة بدار الأوبرا المصرية وزوجة الحفيد، سوزان مهدي، "انتقال سيد درويش من الإسكندرية إلى القاهرة مثل نقطة فاصلة في مشواره الفني، فكانت العاصمة آنذاك تزخر بالفرق الفنية مثل فرق منيرة المهدية وجورج أبيض وعلي الكسار وأولاد عكاشة، وغيرهم كثير، مما أتاح له التواصل مع عمالقة الفن خلال هذه المرحلة والتعاون معهم لينعكس الأثر الفني في كل منهم. واختار سيد درويش هذه المنطقة تحديداً ليكون فيها بيته لأنها كانت وسطاً بين شارع عماد الدين ومنطقة روض الفرج التي كانت مركزاً للمسارح والمقاهي وأماكن العرض الفني بالعاصمة". وتضيف "في ساحة هذا المنزل التقى عمالقة الفن مثل جورج أبيض وزكي طليمات وبديع خيري وزكريا أحمد. وتتلمذ محمد عبدالوهاب على يد سيد درويش في هذا المنزل، وللأسف فإن منزل سيد درويش في منطقة كوم الدكة بالإسكندرية تهدم، ومن هنا فإن هذا البيت يمثل أهمية كبيرة باعتباره الأثر الأخير الباقي لسيد درويش".

2.jpg

أصدقاء موسيقى سيد درويش

على رغم سنوات عمره القصيرة ترك سيد درويش تراثاً فنياً كبيراً لتمر سنوات طويلة بعد وفاته، ولم يجمع هذا التراث أو يوثق بشكل يحفظه من الفقد والضياع ليتم لاحقاً إنشاء جمعية تعنى بهذا التراث وبمسؤولية الحفاظ عليه. وعنها يقول عضو مجلس إدارة جمعية أصدقاء موسيقى سيد درويش، حسن السبكي، "أنشئت الجمعية عام 1947 بعد وفاة سيد درويش بـ24 سنة، إذ كان بعض تراثه بدأ يفقد، أو بدأ آخرون في نسب أعمال له لأنفسهم، ففي هذا الزمن كانت وسائل الحفظ والتوثيق محدودة. ومن هنا شرع محبو سيد درويش في إنشاء هذه الجمعية التي كانت تعد الأولى من نوعها خلال هذه الحقبة، وكان أول رئيس للجمعية هو عبدالمجيد باشا بدر وزير الصناعة والتجارة خلال هذه الفترة، وكانت تضم في عضويتها لفيفاً من الفنانين والمثقفين على رأسهم محمد عبدالوهاب وزكي طليمات ومحمد السنباطي وعباس محمود العقاد وأم كلثوم وبديع خيري، وغيرهم كثير". ويضيف "كان الهدف الأساس للجمعية هو جمع تراث سيد درويش والحفاظ عليه وتوثيقه، ولاحقاً أضيف إلى الأهداف نشره وإحياؤه. وفي عام 2006 أنشئت فرقة لإحياء تراثه، فسابقاً كان النشاط مقتصراً على الندوات والصالونات الثقافية التي كان يعنى بها المتخصصون بشكل أكبر، إلا أن الحفلات أضافت جمهوراً جديداً، وأصبح على هامش الحفلة ندوة للحديث عن موضوع معين أو عن أغنية من الأغنيات ونحرص على تقديم الأغنيات في نسختها الأصلية بأصوات الأجيال الجديدة كشكل من أشكال نقل هذا التراث".

تراث غنائي متنوع

أدوار وموشحات ومسرحيات وإنتاج موسيقي متنوع قدمه سيد درويش على مستوى الشكل والمضمون، فقدم أشكالاً متنوعة من المضامين، بينها السياسي والاجتماعي والعاطفي، وقدم أعمالاً من وحي البسطاء قريبة منهم لأنها تعكس واقعهم وتفاصيل حياتهم، بينها "الحلوة دي قامت تعجن" و"شد الحزام على وسط" و"طلعت يا محلا نورها".

يوضح السبكي "من أهم ما يميز تراث سيد درويش أن أعماله دائماً ما كانت مرتبطة بقصة أو سبب، حتى لو كان موقفاً عابراً، ففي إحدى المرات شاهد سيدة تبكي على ابنها الذي سيذهب للجيش، فجاءت أغنية (يا عزيز عيني أنا نفسي أروح بلدي). وغنى لمحبوبته (خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب). وقدم عديداً من الأغنيات للعمال والحرفيين وغالبية أغانيه الوطنية جاءت مرتبطة بمواقف معينة حدثت بالتواكب مع الحس الوطني المرتفع والتظاهرات الحاشدة التي شهدتها البلاد آنذاك". ويضيف "كثير من أعمال سيد درويش غناها ولحنها فنانون آخرون، كل بأسلوبه، فعلى سبيل المثال قدمت فيروز أعمالاً لسيد درويش من ألحان الرحبانية بطابعهم الموسيقي، وحققت نجاحاً عظيماً مثل أغنيات (زوروني كل سنة مرة) و(أهو ده اللي صار) و(أنا هويت) التي غنتها أيضاً سعاد محمد وكارم محمود والسنباطي، وقدمها كل منهم بأسلوبه وشخصيته الفنية".

خطة ترميم

البيت القديم الذي يزيد عمره على الـ100 سنة تزينه لوحة ضمن مشروع "عاش هنا" الذي تبنته مصر منذ سنوات بوضع لوحة تذكارية على المباني التي عاش بها رموز مصريون في كافة المجالات، لكنه بطبيعة الحال ليس بحالة معمارية جيدة، ويحتاج إلى كثير من أعمال الصيانة والترميم ليعود إلى رونقه. وخلال الفترة الأخيرة أعلن عن مشروع لترميم البيت تم البدء فيه بالتواكب مع المئوية.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعن ترميم بيت سيد درويش بالقاهرة يقول رئيس مجلس إدارة شركة "أرابيسك للتطوير العقاري" المسؤولة عن مشروع ترميم المنزل، عبدالحميد الوزير، "بالفعل بدأ العمل مع مئوية سيد درويش كشكل من أشكال إحياء تراثه، فهذا البيت يمثل قيمة تراثية كبيرة، ويجب الحفاظ عليه، خصوصاً بعدما تهدم منزله بالإسكندرية، فالشيخ سيد درويش قيمة كبيرة فنياً ووطنياً في بدايات القرن الـ20، ويمكن اعتبار أن ثورة 1919 كان لها زعيمان، سعد زغلول سياسياً، وسيد درويش فنياً". ويوضح "الترميم سيتم على مراحل. الأولى ترتكز على معالجة الشقوق والشروخ، ومن بعدها الترميم، وأخيراً التشطيب الداخلي والواجهات والإضاءة التي ستعطي اللمسة الأخيرة، وسنعمل على ترميم كل ما يمكن داخل البيت وإعادته لحالته الأولى ليشعر الزائر للمنزل بعد انتهائه بأنه في حضرة سيد درويش، أوائل القرن الماضي. كما نعمل على وضع تمثال لسيد درويش بمدخل منزله".

عمر قصير ونهاية غامضة

إبداع كبير وعمر قصير لفنان الشعب، إذ رحل سيد درويش في أوج شبابه عن عمر يناهز 31 سنة، تاركاً إرثاً فنياً عظيماً. ففي سبتمبر (أيلول) عام 1923 لفظ أنفاسه الأخيرة في يوم كان مشهوداً بالإسكندرية، فتوافق يوم رحيله مع عودة سعد زغلول من المنفى، إذ هرعت الجماهير الغفيرة لاستقباله في الإسكندرية، ليرحل سيد درويش بشكل مفاجئ، ويشيع جثمانه في جنازة بسيطة حضرها أشخاص معدودون.

روايات كثيرة تم تداولها عن الوفاة المفاجئة لسيد درويش، فقيل أزمة قلبية مفاجئة، وقيل قتله الإنجليز لمناهضته الاحتلال. وذهب البعض إلى أنه جرى التخلص منه منه بإيعاز من الملك فؤاد لأن أعماله تدعو إلى الثورة، وكلها تكنهات لا يوجد ما يثبتها أو ينفيها، إلا أن الثابت الوحيد هو أن سيد درويش هو مجدد الموسيقى العربية خلال القرن الـ20 ورائد من رواد الحركة الفنية في مصر، ولا تزال أعماله حاضرة على رغم رحيله منذ قرن من الزمان.

"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
"زوروني كل سنة مرة"... سيد درويش في حضرة الغياب
أعلن في شمرا