خلال عام 1960 أطلقت الولايات المتحدة أول قمر اصطناعي للاستطلاع التقط صوراً عالية الدقة للاتحاد السوفياتي والتي استخدمت لجمع المعلومات الاستخباراتية.
تتمتع صناعتا الأقمار الاصطناعية والدفاع العسكري بعلاقة طويلة الأمد، والواقع أن تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية غيرت من كيفية عمل الجيوش على مستوى العالم، فأصبحت واحدة من أكثر الأدوات التي لا يمكن الاستغناء عنها في الاتصالات والملاحة والمراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية.
يوضع القمر الاصطناعي العسكري في مدار الفضاء لتنفيذ وظائف حساسة كالاتصالات والملاحة والاستطلاع التي تتعلق بمجموعة متنوعة من المهام التي تخص جيوش الدول على سطح الأرض، واستخدم هذا النوع من الأقمار للمرة الأولى لغرض عسكري في مهمة الاستطلاع الفوتوغرافي.
وكانت الولايات المتحدة رائدة في هذا المجال بعد أن دخلته خلال وقت مبكر من خمسينيات القرن الـ20. وخلال وقت لاحق، جرت بعض المحاولات من جانب الولايات المتحدة لتطوير أقمار اصطناعية قادرة على حمل أسلحة يمكن استخدامها ضد أهداف تقع على سطح الأرض أو في الفضاء، لكن الجهود في هذا الاتجاه توقفت عام 1967 بعد التصديق على المعاهدات الدولية التي تحظر نشر أسلحة الدمار الشامل على الأقمار الاصطناعية في المدار.
تاريخ تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية عسكرياً
بين عامي 1953 و1962 انخرطت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في توترات جيوسياسية مختلفة بلغت ذروتها في الحرب الباردة. وخلال هذه الحقبة انخرطت الدولتان في سباق فضاء ليطلق الاتحاد السوفياتي عام 1957 أول قمر اصطناعي يسمى "سبوتنيك 1". وكانت هذه الخطوة بمثابة بداية عصر الفضاء، وتبعها إنشاء "وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة" في الولايات المتحدة (داربا) عام 1958 التي وجهت البحوث المبكرة حول كيفية استخدام تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية في الأنشطة والتطبيقات الدفاعية.
وخلال عام 1960 أطلقت الولايات المتحدة أول قمر اصطناعي للاستطلاع التقط صوراً عالية الدقة للاتحاد السوفياتي والتي استخدمت لجمع المعلومات الاستخباراتية، ومهد هذا الأمر الطريق لإطلاق أقمار اصطناعية أكثر تقدماً مثل "غامبيت" و"كي أتش 9".
أضحت الأقمار الاصطناعية التي تدور في الفضاء ضرورة لوظائف الحياة اليومية على الأرض (مواقع التواصل)
وشهدت حقبة سبعينيات القرن الـ20 إطلاق عديد من الأدوات التكنولوجية الأخرى للأقمار الاصطناعية والتي لا تزال مستخدمة حتى اليوم. ومن بين هذه الأنظمة نظام الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية الدفاعية الذي سهل الاتصالات الواضحة والآمنة لمسافات طويلة أثناء العمليات العسكرية.
وطور نظام تحديد المواقع العالم (جي بي أس) الشهير أيضاً للعمليات العسكرية خلال فترة السبعينيات نفسها، فيما مكن استخدام تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية الجيوش من التنقل في مناطق الحرب والمواقع التي يصعب الوصول إليها.
أنواعها ودورها
هناك طرق مختلفة تستخدم بها البلدان تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية لحماية قواتها ومواطنيها، إذ تعتمد الجيوش بصورة كبيرة على الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، ويكمل نظام "غاليليو" الأوروبي ونظام الأقمار الاصطناعية الياباني "كواسي زينيث" نظام تحديد المواقع العالمي ويعززان دقة الملاحة بصورة أكبر.
وبذلك ومن خلال مراقبة مجموعات الأقمار الاصطناعية يمكن للجيوش التنقل عبر تضاريس ومواقع مختلفة بدقة غير مسبوقة، إضافة إلى توجيه القوات أثناء العمليات الحربية سهلت أنظمة الملاحة إنقاذ الجنود وساعدتهم على العودة إلى الوطن بأمان.
وتستخدم بعض جيوش العالم وفي مقدمها الجيش الأميركي شبكات الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية مثل "وايدباند غلوبال ساتكوم"، لضمان قدرة الجنود على التواصل بسرعة وأمان في جميع الأوقات حتى في أكثر المناطق النائية والمعادية.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن برنامج "كوبرنيكوس" التابع للاتحاد الأوروبي إلى "فالكون أي" التابع للسعودية تستخدم عديد من الدول التصوير بالأقمار الاصطناعية للمراقبة البحرية والعسكرية، فتدور الأقمار البصرية والرادارية حول العالم بصمت وتلتقط كل التفاصيل من الأعلى وتجمع المعلومات الاستخباراتية التي توجه القوات العسكرية. وهكذا من خلال أقمار الاستطلاع تحصل وكالات الاستخبارات على معلومات حيوية، وتراقب تحركات قوات العدو، وتخطط بدقة تحسباً لأي طارئ.
ويضاف إلى ما تقدم أن أنظمة الأشعة تحت الحمراء القائمة على الفضاء وغيرها من تقنيات الأشعة تحت الحمراء عبر الأقمار الاصطناعية تنبه القوات العسكرية لإطلاق الصواريخ والأنشطة المعادية، مما يسمح لها بالرد بالسرعة والدقة اللازمتين لحماية حدودها.
ومع حدوث هجوم قرصنة كل 39 ثانية حول العالم، تواجه البلدان تهديدات سيبرانية وشيكة في كل دقيقة تقريباً من اليوم، ولهذا السبب أصبحت شبكات الأقمار الاصطناعية حصوناً آمنة، تحمي المعلومات الوطنية السرية من الوقوع في الأيدي الخطأ عبر الهجمات السيبرانية. ويستثمر معظم البلدان اليوم بكثافة في الأمن السيبراني لحماية معلوماتها واتصالاتها من الخروق المحتملة وضمان عدم تمكن خصومها من اعتراض البيانات الحساسة.
في الحرب الحديثة
تستخدم أقمار الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع اليوم مجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار كالكاميرات والرادارات لتحديد مواقع المنشآت والقوات العسكرية المعادية والتحذير من الصواريخ ورسم الخرائط ومراقبة الطقس، بينما تسمح أقمار الاتصالات بالتواصل طويل المدى بغية مشاركة المعلومات وتنسيق العمل.
ولا بد من الإشارة إلى أن جميع الوظائف العسكرية للأقمار الاصطناعية أصبحت جزءاً مهماً من الحرب التقليدية، إذ استفادت الولايات المتحدة بصورة كبيرة من استخدام المراقبة المتقدمة والذخائر الموجهة لتحديد الأهداف وضربها بدقة من مسافات كبيرة، وقامت الصين وروسيا وغيرهما بدمج الأقمار الاصطناعية في عملياتهما العسكرية التقليدية.
ورسخت الصين على وجه الخصوص نفسها كقوة فضائية رئيسة، إذ ضاعفت أسطولها من أقمار الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع إلى 250 قمراً بين عامي 2018 و2022 وتمتلك وتشغل ما لا يقل عن 60 قمراً للاتصالات، وهذا ما يجعل أسطول الأقمار الاصطناعية الصيني ثاني أكبر أسطول بعد الولايات المتحدة.
من ناحية ثانية أطلقت الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي أنظمة الملاحة العالمية الخاصة بها كبدائل لنظام تحديد المواقع العالمي، ويبدو أن الصين تسعى إلى الحصول على نفس قدرة الولايات المتحدة في قيادة القوات العسكرية والسيطرة عليها، وتحديد موقع العدو وتعقبه وتوجيه الذخائر بدقة. وتنظر العقيدة الروسية إلى الوصول إلى الاتصالات والمراقبة الفضائية، وحرمان خصومها من ذلك كمصدر للميزة العسكرية على رغم أن قدرات موسكو تبدو متأخرة كثيراً عن قدرات واشنطن وبكين.
حرب أوكرانيا
استفادت أوكرانيا بدعم غربي من الأقمار الاصطناعية العسكرية في حربها مع روسيا، إذ زودتها أقمار المراقبة التجارية بصور بصرية ورادارية ذات فتحة تركيبية يمكنها الرؤية من خلال الغطاء السحابي وفي الظلام، وبيانات ترددات الراديو للكشف عن الانبعاثات الإلكترونية مثل تشويش نظام تحديد المواقع العالمي. وتعمل أوكرانيا باستمرار على دمج البيانات في أنظمة القيادة والتحكم التي تستخدمها في ساحة المعركة وخارجها، بل إنها استخدمت الصور الفضائية للعثور على طرق إجلاء اللاجئين وتأكيد "المذابح الروسية" في بوتشا.
ويقول المتخصصون إن حجم صور الأقمار الاصطناعية التجارية المستخدمة في الحرب الحالية غير مسبوق، ذلك أن أوكرانيا حملت أكثر من مليون كيلومتر مربع من الصور الجغرافية المكانية في أول أسبوعين من الحرب فحسب. وزعمت وزارة الدفاع الأوكرانية أنه خلال الأشهر الخمسة التي تلت استخدامها الحصري لقمر اصطناعي راداري فنلندي، حددت ما يقارب من 1000 موقع لوحدات عسكرية روسية.
واستخدمت حكومة أوكرانيا ومواطنوها خدمات الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية من مقدمي خدمات متعددين وكانت الخدمة الأكثر أهمية "ستارلينك"، وهي كوكبة ضخمة من آلاف أقمار الإنترنت ذات النطاق العريض من شركة "سبايس أكس" الأميركية. ونظراً إلى أهميتها الاستثنائية وصف وزير التحول الرقمي الأوكراني ميخايلو فيدوروف "ستارلينك" بأنها "دم البنية التحتية للاتصالات بأكملها".
وتعد "ستارلينك" بمثابة العمود الفقري لبرنامج القيادة والتحكم الذي تستخدمه القوات المسلحة الأوكرانية لمشاركة البيانات وتنسيق العمليات العسكرية والتواصل مع مستشاري الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي خارج البلاد.
وفي ساحة المعركة، تُمكن "ستارلينك" فرق الاستطلاع في الجبهة من إرسال بث فيديو قائم على الطائرات من دون طيار إلى وحدات المدفعية في الخلف، وتسهم في تقليص الوقت بين تحديد موقع الهدف وضربه من 20 دقيقة إلى دقيقة واحدة. حتى إن أوكرانيا ربطت أطباق "ستارلينك" بالطائرات من دون طيار، مما يسمح للجنود بتوجيهها من بعد. أما خارج ساحة المعركة وفرت "ستارلينك" اتصالاً موثوقاً وواسع النطاق للحكومة ومواطنيها، بما في ذلك داخل المناطق التي حررتها حكومة كييف حديثاً.