رحل الفنان المغربي محسن جمال عن 77 سنة في إحدى المصحات الخاصة في طنجة، بعد سنوات طويلة من الغناء الذي كان يرتكز على بلاغة الكلمات وجودة اللحن والصوت. وعانى كثيراً من التهميش والإقصاء في سنواته الأخيرة، بعد تدهور وضعه الصحي.
كان آخر ظهور للفنان الراحل محسن جمال خلال حفلة تكريمه العام الماضي في مهرجان تطوان الدولي للعود. وبعدها عاد لبيته ليواصل مقاومته للمرض الذي استبد به خلال الفترة الأخيرة من حياته، إذ عاش تجربة أليمة انتهت ببتر ساقيه.
ولد محسن جمال عام 1948 في مدينة طنجة، حيث يلتقي الغناء العربي بالطرب الأندلسي والتراث الأمازيغي والشعبي، فضلاً عن الموروث الموسيقي الإسباني، في مدينة يصل إليها باستمرار موسيقيو العالم، لا للغناء فحسب، بل للإقامة القصيرة أو الطويلة، وهي مدينة ظلت تحمل صفة "مركز دولي" لفترة طويلة من التاريخ. ومن هذا التنوع الفني تشكلت مرجعيته الغنائية، إذ كان الراحل نموذجاً للفنان الذي يسعى إلى مواكبة تحولات عصره، من دون التفريط في الأصالة الفنية. فقد سعى في ألحانه إلى المجاورة بين الإيقاعات العصرية والموسيقى المغربية التراثية، سواء على مستوى الآلات أم على مستوى التوليفات الموسيقية. من أشهر أغانيه "الزين في الثلاثين" و"خيطانة" و"ما أحلاها بلادي" و"شحال قاسيت من شدة" و"باغي نعرف" و"سال المجرب" و"اسمع لي نوصيك" و"أكيد أكيد"، وغيرها.
نشأ جمال في أسرة فنية وثقافية، وكان يتقن العزف على آلة العود. فخاله محمد العربي التمسماني أحد رواد طرب الآلة، وكان له دور كبير في تشجيعه على تأليف وغناء قطع تراعي الأصالة الفنية. واللافت أنه واجه حروب الوسط الفني منذ انطلاقته، فأغنيته الشهيرة "الزين في الثلاثين" كانت ألغيت من البرمجة الإذاعية بعد بثها في البداية بسبب الوشايات، ولم تبث من جديد إلا بقرار سياسي.
تعامل محسن جمال، ملحناً ومطرباً، مع معظم رموز الأغنية المغربية العصرية أمثال الموسيقار الراحل عبدالسلام عامر والمطربة الراحلة نعيمة سميح والفنان الراحل محمد الحياني والفنانين عبدالهادي بلخياط وعبدالوهاب الدكالي والمطربة لطيفة رأفت والفنان الراحل عبدالرحيم السقاط، وغيرهم. وكان أوج حضوره خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات، إذ يعتبر في تلك الفترة رائداً تجديدياً، أدخل نوعاً من التحديث على الأغنية المغربية، وعرف أيضاً بحضوره المرح على مسارح الغناء وفي القطع المصورة.
نهاية تراجيدية
حين أصيب محسن جمال قبل سنوات في حادثة سير، وظهر في أحد البرامج التلفزيونية وهو يقتعد كرسياً متحركاً. ولم يكن يملك المقابل المادي لإجراء جراحة من جهة، ولم يكن يتمتع بأية تغطية صحية من الدولة من جهة أخرى. لذلك تساءل عن حقه في العلاج بعد كل ما قدمه للأغنية المغربية العصرية، رافضاً، على مدار سنوات طويلة، الانصياع للتيار التجاري ولصنف الأغاني التي درت على أصحابها أموالاً طائلة. انتقد جمال المتطفلين على الميدان الذين صاروا يحظون بالاهتمام الإعلامي، ويظهرون في البرامج التلفزيونية على حساب الرواد الذين عاش معظمهم الموت الرمزي، إثر تغييبهم عن الإعلام الوطني والتظاهرات الفنية الكبرى.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحقيقة أن الأغنية المغربية العصرية، التي ازدهرت منذ أواسط القرن الماضي، تعيش حالة من التهميش والنكران سواء في الإعلام المرئي أو في المهرجانات الوطنية. لذلك كان محسن جمال ينتقد هيمنة الأنماط الغنائية التجارية، وغياب البرامج الحوارية التي كانت تستضيف المؤلفين والملحنين والمطربين الذين يشتغلون وفق تصور فني رفيع.
غاب محسن جمال عن التلفزيون المغربي وغابت أغانيه، وتدهورت صحته بالتدريج إلى أن بترت قدماه، وكان في ظل وضحه الصحي المتأزم يتعفف عن استدرار العطف من المسؤولين. قبل أسابيع قليلة غادرنا الموسيقار الرائد محمد بنعبدالسلام، كما غادرتنا نعيمة سميح أحد أصفى الأصوات الغنائية في تاريخ المغرب، وبرحيل محسن جمال ينهار جدار آخر من الجدران التي ظلت تدعم قلعة الغناء المغربي الطربي الذي راهن أعلامه، على مدار عقود، على القيمة الأدبية للقطعة المغناة أولاً، وعلى أصالة اللحن وجودة الصوت. بالتالي قد تشهد تلك التجربة، التي حملت اسم "الأغنية المغربية العصرية"، نهاية مرحلة فنية لم يعد الناس يستمعون إلى نتاجها الفني إلا من باب الذكرى والحنين.