ليس من الحكمة الحديث عن مجرد انتصار وهزيمة في المعارك المصيرية، فما يمكن تداوله من مفرداتٍ بسيطة في الحديث عن حسم ما في دوري كرة قدم، لا يصلح بتاتاً للاستخدام في توصيف جولة صراع كبرى وواسعة الطيف، بوسع هذا العالم.

فما جرى في لبنان أمس هو أكثر من مجرد انتصار لأصحاب أرض وقضية، وأكبر بكثير من مجرد خسارة محدودة النطاق لمعتدٍ لم يتّعظ من تجارب إخفاق مريرة سبقت.

فالحدث منعطف بالغ الدلالة والتأثير في مجريات صراعٍ عالمي لا يمكن اختصاره ببؤرة التحام ضيقة..وهنا بالفعل يمكننا أن نزعم، واقعياً لا درامياً، أنه “إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في أوكرانيا وبحر الصين وتايوان وسلسلة مناطق كباش ساخن في هذا العالم، علينا أن نعرف ماذا يجري في لبنان”.

فإن كانت الحرب على لبنان بعد غزة، الحلقة الأخيرة في سيناريو تعددت الأصابع والعقول الدموية التي صاغته، سيكون حدث الأمس بدايةَ سيناريو جديد، ينطوي على ترتيب مختلف لمواقف وحسابات عميقة تبدأ من ولايات متحدة أميركية مابعد بايدن، وتشمل المسألةَ الأوكرانية التي ستكون حافلةً بالمفاجآت، و فصولاً غير معلنة في حرب تجارية مستعرة وصراع محموم على طرق التجارة العالمية، ومعها الكثير من القضايا الحدية العالقة على جانبي برزخ حرب قطبَي هذا العالم.

لكن بما أنَّ مناسبة هذه السيرة الفضفاضة، هي الحدث اللبناني الجاذب، فلا بدَّ من وقفة للإشارة بكثير من الاستغراب، إلى حماقة عدو مدجج بكل ما أوتي العالم من تقانة، انتكس و ارتكس مراراً وغرق في الأوحال ذاتها، وكانت بالأمس انتكاسته الكبرى على الرغم من ضروب السعار الدموي التي جرَّبها في لبنان وسورية.

عدو لم يتعلم أن لا فرصة له في الفوز بحرب برية، لأن للبرّ أدبياتٍ ودلالاتٍ ساميةً لم يعرفها ولعلّه لن يعرفها..للأرض والبر عقيدةٌ ورجالٌ وانتماءٌ وجَلدٌ وإصرارٌ وروحُ إباء، تفتقر إليها التكنولوجيا والتقانة العسكرية الصماء والعمياء مهما بلغت من تطور.

فهو ذاته جرّب وتقهقر في تموز 2006، و جرّب ومُنِيَّ بخسائرَ كبيرةٍ في غزة، وعاد ليجرّبَ مجدداً في الجنوب اللبناني، فملأ وقع هزيمته الدنيا صخباً.

هزيمة توقَّعَها منذ البداية، كلُّ قارئ حاذق كان أو مبتدئ لتجارب التاريخ المعاصر، وكان غريباً بالفعل أنَّ أكثر من كان عليه الاستفادة من دروس دفع ثمنها غالياً، لم يستفد ولم يتعظ ليُلفحَ و ليُحرق من مصدر لهب ذاته، هو من يوقده ثم يعجز عن إخماده.

قد يكون علينا أن نتابع قريباً مستجداتٍ متسارعةً في مطارح ساخنة من هذا العالم، كان ينتظر اللاعبون فيها الحسمَ في لبنان ليصوبوا مساراتِهم السياسيةَ وامتداداتِها الاقتصادية، وهاهو الحسم قد أُنجز وقُضي الأمر..

فلنترقُب كيف ستكون أصداء صدمة قطب بأكمله لا مجرّد كيان انكفأ قسراً.

أعلن في شمرا