تعيش المهرجانات السينمائية في الجزائر مفارقة لافتة بين الحضور الكثيف للفعاليات الرسمية وغياب التفاعل الحقيقي مع الجمهور، فبينما تُنظم سنوياً عشرات التظاهرات السينمائية في مختلف الولايات، من العاصمة إلى أقصى الجنوب، تبدو معظم الفعاليات نخبوية الطابع، محصورة في قاعات مغلقة ودوائر ضيقة من المشتغلين في المجال، ما يجعلها بعيدة من هموم المتفرج وذائقته.

مع حلول موسم المهرجانات السينمائية في الجزائر، تتجه الأنظار إلى قاعات العرض والسجادات الحمراء التي تستقبل سنوياً عشرات الفعاليات في مختلف الولايات، لكن بريق هذه المناسبات غالباً ما يُخفي خلفه إشكاليات عميقة تتعلق بالتنظيم والتمويل والمضمون.

وبين طموح تجديد المشهد الثقافي وتعزيز حضور السينما الجزائرية في الفضاءين العربي والأفريقي، تتكرّر الملاحظات حول غياب التنسيق بين المهرجانات، وغياب رؤية وطنية موحدة تدعم الإنتاج السينمائي وتربطه بجمهوره الطبيعي.

وتتزاحم المواعيد السينمائية على أجندة الجزائر، من مهرجان وهران للفيلم العربي إلى مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي، ومهرجان الجزائر الدولي للسينما، وغيرها من التظاهرات التي باتت جزءاً من المشهد الثقافي الرسمي، غير أن هذا الزخم، الذي يبدو ظاهرياً علامة على حيوية الفن السابع في البلاد، يخفي خلفه أسئلة عميقة حول الجدوى، والجمهور، ودور هذه المهرجانات في صناعة السينما الوطنية.

وتعيش المهرجانات السينمائية في الجزائر مفارقة لافتة بين الحضور الكثيف للفعاليات الرسمية وغياب التفاعل الحقيقي مع الجمهور، فبينما تُنظم سنوياً عشرات التظاهرات السينمائية في مختلف الولايات، من العاصمة إلى أقصى الجنوب، تبدو معظم الفعاليات نخبوية الطابع، محصورة في قاعات مغلقة ودوائر ضيقة من المشتغلين في المجال، ما يجعلها بعيدة من هموم المتفرج وذائقته.

وتعاني الفعاليات ضعفاً في الترويج والتواصل، وغياب برامج تربط الشباب بعالم السينما أو تخلق تقاليد المشاهدة الجماعية، وبينما تسعى المؤسسات الرسمية إلى إظهار حركية ثقافية رسمية، يتوق الجمهور إلى سينما تعبّر عن واقعه، فيما تظل المهرجانات الجزائرية تبحث عن معادلة متوازنة تعيد للسينما دورها كفن جماهيري لا كحدث عابر على رزنامة الثقافة.

وتعود جذور المهرجانات السينمائية في الجزائر إلى سنوات ما بعد الاستقلال، حين تأسس مهرجان الجزائر الدولي للفيلم عام 1969، كأحد رموز الانفتاح الثقافي ودعم السينما الملتزمة التي رافقت ثورة التحرير، وفي تلك المرحلة، كانت السينما تُعدّ أداة للتعبير السياسي والاجتماعي، ووسيلة لترسيخ الهوية الوطنية.

وشهدت سبعينيات القرن الماضي ازدهاراً ملحوظاً في الإنتاج السينمائي الجزائري الذي حصد جوائز عالمية، مثل "وقائع سنين الجمر" لمحمد لخضر حمينة، الحاصل على السعفة الذهبية في "كان" عام 1975.

001.jpg

على رغم تنوع المهرجانات وتعددها الجغرافي، إلا أن الإشكال الأكبر يظل في غياب الجمهور الحقيقي، فغالباً ما تبدو هذه الفعاليات محصورة في النخب الثقافية والفنية، من دون انخراط فعلي للمجتمع المحلي، وتُقام العروض في قاعات محدودة، وفي أحيان كثيرة أمام مقاعد شبه فارغة، ما يثير تساؤلات حول مدى فعالية سياسات الترويج والاتصال.

كذلك فإن غياب التربية السينمائية في المدارس، وضعف قنوات التوزيع، جعلا المواطن العادي بعيداً من المهرجانات، مكتفياً بالسينما التجارية أو المحتوى الرقمي الذي يقدّمه الإنترنت.

وفي عام 2024 صدر القانون المتعلق بالصناعة السينماتوغرافية وتم تدشين وللمرة الأولى في تاريخ الجزائر لمعهد عالٍ للسينما، وذلك في ظل اهتمام توليه السلطات الحكومية لتطوير الفن السابع، بتوجيهات من الرئيس عبد المجيد تبون.

ويهدف القانون المتعلق بالصناعة السينماتوغرافية، إلى إيجاد ديناميكية اقتصادية حقيقية في هذا المجال بترقية الاستثمار ودعم المشاريع الخاصة، وقد جاء فيه أن الوزير المكلف بالثقافة وبالتنسيق مع القطاعات والهيئات المعنية يقوم بـ"إعداد السياسة الوطنية في مجال الصناعة السينماتوغرافية والسهر على تنفيذها"، حيث تهدف هذه السياسة الوطنية إلى "التطوير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي" لهذه الصناعة و"تكييفها مع التطورات والابتكارات التكنولوجية".

من جهة أخرى، شهد أيضاً عام 2024 إنشاء أول معهد وطني عالي للسينما في تاريخ الجزائر يحمل اسم "محمد لخضر حمينة"، وذلك بعد أن أسست الجزائر في 2022 أول مدرسة ثانوية وطنية للفنون باسم "علي معاشي" والتي تعتبر الوحيدة من نوعها على المستوى الأفريقي تشمل تخصصات فنية بما فيها السمعي- البصري.

وفي الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2024 افتتح بالقليعة بولاية تيبازة هذا الصرح الثقافي، التابع لوزارة الثقافة والفنون، والذي استقبل أول دفعة من الناجحين في شهادة البكالوريا بثانوية "علي معاشي" للفنون بمناسبة انطلاق الموسم الجامعي للمؤسسات الثقافية 2024/ 2025.

من جهة أخرى، تم الإعلان عن إعادة فتح صندوق دعم السينما والآداب والفنون في إطار قانون المالية لعام 2025، وهو الصندوق الذي طالب الفنانون بإعادته بعد أن تم إغلاقه في أواخر 2021.

وتم تنظيم لقاء وطني في فبراير (شباط) 2024، حول "آليات الاستثمار في مجال الصناعة السينماتوغرافية" من طرف وزارة الثقافة والفنون بالشراكة مع الوكالة الجزائرية لترقية الاستثمار، كان من أهم مخرجاته قيام هذه الوكالة بإدراج قطاع الصناعات السينماتوغرافية ضمن أولويات الاستثمار في الجزائر، على غرار قطاعات اقتصادية مهمة.

وتحصي وزارة الثقافة والفنون في الجزائر، 176 مهرجاناً منها 33 مهرجاناً وطنياً و29 مهرجاناً دولياً و114 مهرجاناً محلياً، وتعنى هذه المهرجانات بمجالات مختلفة من بينها المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى والأدب.

ويشير بعض النقاد إلى أن المهرجانات في الجزائر تميل أكثر إلى الطابع الاحتفالي والإداري، بدل أن تكون فضاءً للنقاش، والتكوين، وعرض تجارب سينمائية جديدة، وحتى المبادرات التي تحاول الانفتاح على الجمهور، كالعروض في الهواء الطلق أو الورشات الموجهة للشباب، تبقى محدودة وغير مستدامة.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول الصحافي الجزائري المهتم بالشأن الثقافي، صالح عزوز إن "مهرجانات السينما، لا تقاس ببهرجة يوم الافتتاح، والضحكات المصطنعة أمام الكاميرات، وتصَنّع الخطوات فوق البساط الأحمر، من أجل أخذ صور للنشر على منصات التواصل، معنونة من طرف أصحابها، واختيار اللباس الأنيق أمام جدارية وشعار المهرجان".

ويوضح عزوز لـ"اندبندنت عربية" أن نجاح السينما في المهرجان يتمثل في الحضور في قاعات العرض، تحت الأضواء الخافتة والصمت احتراماً للمحتوى وللأشخاص، وبعده النقاش والتحليل وكل يقدم رأيه على حسب معرفته وزاوية نظره، والتبادل والأخذ والرد، والاختلاف في الآراء يعد ظاهرة صحية، لأن التفاعل هو الأساس في نجاح السينما".

وأضاف المتحدث "لكن ما نراه اليوم في بعض المهرجانات، هو أن البساط الأحمر مزدحم والقاعات خاوية على عروشها، ووصل الأمر أن بعض العروض، تحضرها لجنة التحكيم فقط".

من جهته، يرى الكاتب والناقد السينمائي الجزائري جمال محمدي أنه "لا يمكن أن ننكر أن العديد من المهرجانات السينمائية في الجزائر باتت تعاني من طابع شكلي فارغ من المضمون، ولا حتى بوجود رؤية فنية وإدارة تقنية مؤهلة، إذ تنظم بمظاهر احتفالية نت دون محتوى ثقافي أو فني حقيقي".

وقال محمدي لـ"اندبندنت عربية" إن "غياب النقاد، وانعدام التوثيق، وضعف التفاعل مع الأفلام المعروضة، يجعل هذه التظاهرات أقرب إلى كرنفالات مصورة من كونها مشاريع ثقافية جادة، الجمهور كذلك غائب، لا لأن الجمهور غير موجود، بل لأنه لم يدع بطريقة حقيقية، ولم يجد نفسه في هذه الفعاليات التي لا تخاطب ذائقته ولا تحترم شغفه بمشاهدة أفلام في مستوى تطلعاته".

ويشير الناقد السينمائي إلى أن "المهرجانات السينمائية ليست فقط تظاهرات ثقافية وترفيهية، بل هي أدوات للقوة الناعمة، قادرة على إعادة تقديم الجزائر للعالم بصورتها الحضارية، وتاريخها السينمائي الغني، وفي السياق الدولي، تستخدم هذه الفعاليات كوسائل دبلوماسية ثقافية، وواجهات للتأثير الناعم سياسياً واقتصادياً، غير أن التسيير التقليدي، المعتمد على الذهنيات القديمة والآليات المتجاوزة، لا يواكب هذا التحول. فنحن أمام مهرجانات تُفقد الجزائر فرصة استثمارها كوسيط ثقافي واستراتيجي في محيطها العربي والأفريقي والدولي".

002.jpg

وأضاف المتحدث أنه "في الوقت الذي تحولت فيه السينما إلى صناعة قائمة بذاتها، تخلق مناصب شغل، وتفتح باب الاستثمار والتعاون الدولي، لا تزال أغلب مهرجانات الجزائر تدار وكأنها عبء على الموازنة، بدل أن تكون جزءاً من اقتصاد الثقافة والسياحة، إذ إن غياب الشفافية في الإنفاق، وندرة الشراكات الإنتاجية أو التوزيعية التي تخرج من هذه التظاهرات، يكشف غياب الوعي بالدور الاقتصادي للمهرجانات".

ويقول جمال محمدي إن "ما يثير المفارقة هو أن أعلى السلطات في الدولة، ممثلة برئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، أبدى اهتماماً خاصاً بملف السينما، وجعله من أولى اهتماماته، والدليل إشرافه المباشر على جلسات قطاع السينما وتنصيصه على أهمية تطويرها كرافعة للهوية الثقافية، لكن ما يُحزن هو أن هذا الاهتمام لم يترجم إلى تغيير فعلي في آليات التسيير، فالعقليات والاستشارات المفترضة لا تزال دون المستوى المطلوب والكوادر البشرية التي تدير المشهد لا تزال مأسورة بمنطق الارتجال والقرارات الارتجالية والولاءات الضيقة، من دون فهم حقيقي لمفهوم (مؤسسة مهرجان) ككيان مستمر ومتطور".

وتابع الناقد السينمائي "في أغلب المهرجات لا يزال التركيز على البروتوكولات والتقليد الأجوف للصور والسيارات الفارهة، جعل من المهرجانات مجرد واجهات بلا مضمون. في حين أن المهرجان الحقيقي يقاس بما يحدث داخل القاعات من عروض وندوات وورش عمل وتبادل معرفي وفني، فالمحتوى لا المظهر، هو ما يبقي الجمهور، ويبني ذاكرة جماعية حول الحدث، ويجعل المدينة المضيفة قبلة للسينمائيين والنقاد والمستثمرين".

ودعا محمدي إلى ضرورة مراجعة شاملة لمفهوم تنظيم المهرجانات في الجزائر وتأسيس إدارات مستقلة، ذات كفاءة، تعمل على مدار العام، وتخطط لكل طبعة بعيداً من منطق اللحظة الأخيرة، مع وجود أمانة دائمة، فرق عمل متخصصة، ومواقع رقمية تفاعلية، ومجلات نقدية ترافق المهرجان، وهي شروط أساسية للارتقاء بهذه التظاهرات نحو مصاف المهرجانات المؤثرة عربياً وأفريقياً ودولياً.

وخلص المتحدث إلى القول إن "هناك ديناميكية جديدة صحيحة وعودة لبعض المهرجانات في وهران منها ’تيميمون‘ و’باتنة‘ و’سيدي بلعباس‘ وغيرها، لكن من دون تغيير الذهنيات، وتجاوز منطق المهرجان للصور، لن نتمكن من صناعة مهرجان يشعّ ثقافياً ويفتح آفاق التعاون، ويعيد للجزائر موقعها الحقيقي على الخريطة السينمائية".

المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
المهرجانات السينمائية بالجزائر تخاطب الأضواء لا الجمهور
أعلن في شمرا