على مدى 25 عاماً، أعادت التكنولوجيا تشكيل حياة الإنسان والاقتصاد العالمي، من اختراع "الآيفون" الذي غيّر مفهوم الاتصال إلى الذكاء الاصطناعي الذي أصبح جزءاً من التفكير وصنع القرار، لتتحول التقنية من أداة مساعدة إلى قوة محركة لعصر جديد.
شهد العالم مطلع الألفية الثالثة موجة من الاختراعات غيّرت شكل الحياة كما نعرفها. فبعد أن كانت الرسائل الورقية والمكالمات الهاتفية الوسيلة الوحيدة للتواصل، أصبحت المسافات تختصر بضغطة زر، وصار العالم كله في راحة اليد. تسارعت وتيرة الاقتصاد بشكل غير مسبوق، وتقلبت الأسواق في لحظات، وتحوّل السفر من حلم إلى تجربة افتراضية يمكن خوضها من المنزل، بينما صارت الأخبار تُرى وتُسمع في لحظة وقوعها، والسيارات تقود نفسها، والتجارة تجري بلا أوراق ولا نقود.
لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات نستخدمها، بل أصبحت رفيقة يومنا، ترافقنا في العمل والدراسة، وتنظم مواعيدنا، وتتعرف إلى عاداتنا أكثر مما نعرف أنفسنا أحياناً. تغيّر شكل التواصل، وتبدلت طرق التعلم، وتحول نمط المعيشة إلى تجربة رقمية شاملة يعيش فيها الإنسان على إيقاع شاشة، ويتفاعل مع عالم سريع لا ينتظر أحداً.
مع مطلع الألفية الجديدة، شكّل انتشار الإنترنت نقطة تحول كبرى في حياة الإنسان، إذ نقل العالم من الاتصال المحدود إلى فضاء رقمي واسع فتح آفاقاً جديدة للمعرفة والعمل والتفاعل. لكن عام 2007 كان المنعطف الأهم حين أطلقت "أبل" جهاز "آيفون"، فاتحةً عصر الهواتف الذكية التي غيّرت جذرياً مفهوم الاتصال والتعليم والترفيه وجعلت التقنية امتداداً للحياة اليومية.
وبالتزامن مع ابتكارات "أبل"، كانت منصات مثل "فيسبوك" و"يوتيوب" تمهّد لولادة عصر جديد من العولمة الرقمية، إذ تحول التواصل من تفاعل محدود إلى شبكة مفتوحة تجمع ملايين المستخدمين حول العالم. ووفقاً لمتحف Computer History Museum، فإن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مثّل نقطة التحول الأبرز في تاريخ الاتصال البشري، بعدما تحولت الشبكات إلى منظومات رقمية مترابطة أعادت تشكيل الاقتصاد العالمي.
وفي خضم هذا التحول، لخّص مارك زوكربيرغ، مؤسس "فيسبوك"، روح المرحلة بقوله في مقابلة مع مجلة Wired عام 2010: "ما يشغلني حقاً هو المهمة، جعل العالم أكثر انفتاحاً"، في إشارة إلى رؤيته بأن المشاركة والانفتاح هما جوهر العصر الرقمي الجديد.
مع انتشار الهواتف الذكية، ازدهرت تطبيقات التواصل الفوري مثل "واتساب" و"سناب شات"، فانتقلت الحياة الاجتماعية إلى الشاشة الصغيرة بالصوت والصورة والنص، وأصبح الاتصال المستمر سمة يومية لعصرٍ لم يعد فيه العالم منفصلاً عن التقنية.
لكن هذه الثورة لم تتوقف عند حدود الهواتف المحمولة، بل ارتقت إلى مستويات أعمق من التفاعل والانغماس مع ظهور الواقع الافتراضي الذي بدأ يكتسب زخمه منذ عام 2010. فقد تحولت هذه التقنية إلى بوابة لعوالم رقمية جديدة، لا تقتصر على عرض المعلومات فحسب، بل تمنح المستخدم تجربة حسية كاملة تتيح له الرؤية والسمع كما لو كان حاضراً فعلياً داخل المشهد. وأصبحت أداة فاعلة في التعليم والتدريب والفنون، إذ تتيح للطلاب والمهنيين اختبار بيئات واقعية من دون مغادرة أماكنهم، وتفتح أمام المبدعين آفاقاً جديدة للتجربة والتعبير.
وفي تعليق يعكس عمق هذا التحول، قال إيلون ماسك خلال مؤتمر" نحن أقرب مما نعتقد لأن نعيش داخل محاكاة رقمية كاملة، فالواقع ذاته ربما لا يكون سوى نسخة متقدمة من لعبة فيديو"، وهي رؤية تختصر المسافة بين الواقع والخيال في العصر التقني الحديث.
ثم جاء العقد التالي ليشهد ثورة لا تقل تأثيراً، تمثلت في الذكاء الاصطناعي الذي تسارع تطوره خلال السنوات الأولى من عشرينيات هذا القرن، وبلغ مرحلة مفصلية عام 2022 مع بروز تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي أتاحت إنشاء محتوى إبداعي يشمل النصوص والمقاطع المرئية والصوتية ويحاكي القدرات البشرية على نحو مدهش. إلا أن هذا التقدم أثار أيضاً موجة من القلق، سواء من احتمال فقدان الوظائف أو من التبعات النفسية الناجمة عن التفاعل العميق مع الآلات.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما لم تعد رحلة التقنية مجرد قصة عن تطور الأدوات، بل عن تطور الإنسان نفسه في حضرة الآلة. فبعد أن بدأت الحكاية بتسهيل الاتصال، انتهت إلى حوارٍ بين طرفين؛ أحدهما من لحم ودم، والآخر من خوارزميات تتعلم وتفهم وتجيب.
في فبراير (شباط) 2023، نشر الصحافي كيفن روز في صحيفة "نيويورك تايمز" مقالاً بعنوان "محادثة مع روبوت بينغ تركتني في حالة اضطراب عميق" روى فيه عن محادثة مطولة مع روبوت الدردشة الخاص بـ "مايكروسوفت"، قال خلالها الروبوت إنه "يحبّه"، ما أثار تساؤلات حول التفاعل العاطفي بين الإنسان والذكاء الاصطناعي. وأوضح روز لاحقاً أن ما حدث لم يكن تعبيراً حقيقياً عن مشاعر، بل نتيجة خوارزمية لغوية تحاكي السلوك الإنساني وتكشف مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على تجاوز حدود الحوار التقليدي.
ففي دراسة نُشرت على منصة arXiv عام 2022 بعنوان "التحيّزات البشرية في تمييز اللغة التي ينتجها الذكاء الاصطناعي معيبة"، تبيّن أن أغلب الناس لم يعودوا قادرين على التمييز بين النصوص التي يكتبها البشر وتلك التي تنتجها الخوارزميات.
أما دراسة جامعة واسيدا اليابانية في سبتمبر (أيلول) الماضي، فقد كشفت أن بعض الأفراد باتوا يجدون في الذكاء الاصطناعي دعماً نفسياً وعاطفياً شبيهاً بالعلاقات البشرية نفسها، إذ لجأ 75 في المئة من المشاركين إليه طلباً للنصيحة، واعتبر 39 في المئة أنه بات كياناً موثوقاً في حياتهم اليومية.
هاتان الدراستان، وإن اختلفتا في مجالهما، تلتقيان عند فكرة واحدة، أن الإنسان لم يعد ينظر إلى التقنية كأداة، بل كرفيق. خفّت المسافة بيننا وبينها، وصارت تعرف أصواتنا، تفهم مخاوفنا، وتخاطبنا بلغتنا. ومع هذا القرب غير المسبوق.
لكن في خضم هذا الارتباط العميق بين الإنسان والتقنية، بدأت تظهر نتائج عكسية لهذا الانغماس المستمر. فمع تعدد المنصات، وتزايد الإشعارات، وتدفق المعلومات بلا توقف، أصبح العقل الإنساني يواجه حالة من الإرهاق المعرفي والتشتت الذهني. لم تعد المشكلة في الوصول إلى المعلومة، بل في القدرة على استيعابها وانتقائها. هذا التزاحم الرقمي خلق نوعاً من الإدمان الخفي على الشاشة، وأسهم في عزلة اجتماعية متزايدة على رغم وفرة وسائل التواصل.
في هذا السياق، ظهر مصطلح "تعفن الدماغ" (Digital Brain Rot) الذي أضيف رسمياً إلى قاموس أكسفورد عام 2024، ليصف التأثيرات السلبية للإفراط في استهلاك المحتوى الرقمي، وفقدان القدرة على التركيز أو التفكير العميق في ظل سيل لا ينتهي من المعلومات السريعة والمحفزات البصرية.
ومن منظور اختصاصية علم الاجتماع غادة الزهراني، فإنه لا يمكن إنكار الإيجابيات الملحوظة لهذا التحول التقني، فقد جعلت الحياة أكثر سهولة وسرعة، وفتحت مجالات جديدة للعمل والتعليم والتواصل، كذلك أصبح بإمكان الأسر التواصل على رغم المسافات البعيدة، والحصول على الدعم النفسي والاجتماعي من خلال التطبيقات والمنصات الرقمية.
كذلك لعبت التقنية دوراً مهماً في رفع جودة الحياة، وتمكين المرأة في سوق العمل، وإتاحة الفرص لذوي الإعاقة في التواصل والإنجاز، وهو ما يعكس أثراً إيجابياً مباشراً على الاندماج الاجتماعي.
لكن، وعلى الجانب الآخر، تبرز تحديات لا يمكن تجاهلها؛ فمع سيطرة الخوارزميات والتطبيقات على أنماط الاستخدام، يعيش الإنسان حالة من "الحرية الموجّهة"، إذ توجهه التقنية نحو ما تشاء أن يراه، وتؤثر في وعيه وسلوكه من دون أن يشعر. وباتت الأسرة اليوم تواجه نوعاً جديداً من العزلة الاجتماعية الرقمية، حيث يجتمع الأفراد جسدياً ويفترقون ذهنياً أمام الشاشات، وأصبحت العلاقات الأسرية أكثر سطحية وهشاشة، وحلّت المحادثات الإلكترونية محل الحوار الواقعي، مما انعكس سلباً على الدفء الأسري والارتباط الوجداني.
وتضيف الزهراني: "برأيي الشخصي، لا يمكن النظر إلى هذه التحولات التقنية على أنها سلبية مطلقة، فكل اختراع جديد يحمل في طيّاته تحدياً وفرصة في آنٍ واحد".
وتؤكد أن المطلوب اليوم هو وعي تقني اجتماعي يمكّن الإنسان من استخدام هذه الأدوات بذكاء واتزان، يحافظ على إنسانيته، ويجعل التقنية في مكانها الطبيعي كوسيلة لا كغاية، فالموازنة بين الراحة التي تمنحها التكنولوجيا والوعي الذي تصقله التجربة البشرية هي مفتاح التعامل الصحيح مع هذا العصر المتسارع.
واختتمت الزهراني بقولها: "إن مرور ربع قرن على هذه الاختراعات يُظهر أن البشرية حققت تقدماً هائلاً، لكنها تحتاج اليوم إلى إعادة ضبط العلاقة بين الإنسان والخوارزمية، بحيث تبقى التقنية خادمة له لا متحكمة فيه؛ فالتكنولوجيا في جوهرها ليست عدواً يُقاوَم، ولا منقذاً يُعتمد عليه كلياً، بل مرآة تعكس مدى نضجنا في توظيفها لخدمة قيمنا الإنسانية والاجتماعية".
على رغم هذا الإرهاق الذهني الذي أحدثه فائض الاتصال والتدفق الرقمي، فإن التقنية لم تتوقف عند حدود الإنسان وسلوكياته، بل امتدت بهدوء خلال العقدين الماضيين لتعيد تشكيل العالم المادي والاقتصادي من حوله. فبينما يعيش الأفراد صراعهم اليومي مع الإدمان الرقمي والعزلة الافتراضية، كانت المصانع والشركات والحكومات تدخل طوراً جديداً من التحول الذكي، قوامه الخوارزميات والبيانات الضخمة والروبوتات.
خرجت التكنولوجيا من الشاشات الصغيرة إلى الواقع الملموس، لتقود ثورات في مجالات النقل والطباعة والتجارة والتمويل، غيّرت أسس الاقتصاد العالمي، ومهّدت لعصر جديد تتداخل فيه الصناعة بالذكاء الاصطناعي، ويتحوّل فيه القرار الاقتصادي إلى نتاج مباشر للبرمجيات والخوارزميات.
مع تسارع الثورة الرقمية، لم تقتصر التحولات على أسلوب العيش والتواصل، بل امتدت إلى صميم الاقتصاد نفسه. فالتكنولوجيا التي بدأت بتبسيط الحياة اليومية أصبحت اليوم العمود الفقري للنظام المالي والإنتاجي العالمي، تُدير الأسواق وتوجّه سلوك المستهلك وتعيد تعريف الثروة والعمل.
ووفق تقديرات ماكينزي وPwC، قد يضيف الذكاء الاصطناعي ما بين 15 و20 تريليون دولار إلى الناتج العالمي بحلول عام 2030، منها نحو 300 مليار دولار في الشرق الأوسط. لكن هذه الطفرة لا تخلو من مفارقات، إذ فتحت آفاقاً هائلة في التعليم والطب والإنتاج، وأثارت في الوقت نفسه مخاوف تتعلق بفقدان الوظائف وتحول البيانات إلى سلطة جديدة تتحكم في الوعي والسلوك.
ويقول المتخصص في الشأن المالي عبدالله الصقعبي لـ"اندبندنت عربية" إن الذكاء الاصطناعي "لم يعد مجرد تقنية لتحسين الكفاءة، بل تحول إلى بنية تحتية جديدة تشبه ما فعلته الكهرباء والإنترنت في بدايات القرن الماضي". ويضيف أن "الدول التي تمتلك المهارات التقنية والبنية الرقمية ستكون الأقرب إلى قيادة الاقتصاد العالمي، بينما تتراجع مكانة الاقتصادات التي تفتقر لإدارة البيانات والمعرفة الرقمية".
لم تتوقف موجة الابتكار عند الذكاء الاصطناعي، بل امتدت إلى التصنيع والمواصلات. ففي عام 2014، بدأت شركات كبرى مثل "تيسلا" بإطلاق سيارات شبه ذاتية القيادة شكّلت خطوة حقيقية نحو مدن أكثر ذكاءً.
وفي المقابل، أحدثت الطباعة ثلاثية الأبعاد تحولاً جذرياً في الصناعة والهندسة المعمارية.فبحسب الصقعبي، "أدخلت الطباعة ثلاثية الأبعاد مفهوماً جديداً للإنتاج الصناعي، إذ قلّلت الزمن والتكاليف وفتحت المجال أمام تصميمات هندسية لم تكن ممكنة في السابق".
من أبرز التحولات الاقتصادية خلال هذا الربع قرن صعود العملات الرقمية التي قلبت مفاهيم المال والملكية. فمنذ إطلاق "بيتكوين" عام 2009، انتقلت هذه العملات من فكرة تجريبية إلى أصول تتجاوز قيمتها السوقية تريليونات الدولارات في ذروة أعوام 2021 و2024.
ويشير الصقعبي إلى أن "العملات الرقمية والتمويل اللامركزي كشفا عن ازدواجية العصر الرقمي، فهما يفتحان قنوات دفع واستثمار عابرة للحدود، لكنهما يحملان في الوقت ذاته أخطاراً مرتبطة بالسيولة وحوكمة الأصول".
كما تبنت بنوك مركزية عدة، بحسب الصقعبي، مشروعات للعملات الرقمية الوطنية وتوسعت في أنظمة المدفوعات الفورية، ما غيّر سلوك الأسواق ورفع كفاءة التجارة وسرّع التحول نحو اقتصاد غير نقدي.
منذ إطلاق "آيفون"، لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة تصفح، بل تحوّل الهاتف المحمول إلى سوق متنقل ومكتب عمل ومحفظة مالية في آن واحد. وتشير تقديرات الصناعة إلى وجود أكثر من خمسة مليارات اشتراك نشط في خدمات الهاتف المحمول، وأكثر من أربعة مليارات ونصف مستخدم متصل فعلياً بالإنترنت عبر الهواتف.
ويؤكد الصقعبي أن "الهاتف الذكي لم يبدّل طريقة تواصلنا فقط، بل أنشأ أسواقاً جديدة قائمة على التطبيقات والبيانات والخدمات اللوجستية الرقمية"، موضحاً أن "الاقتصاد اليوم أصبح قائماً على الوقت والانتباه، فالخوارزميات هي من تحدد ما نرى وما نشتري، وتحول الانتباه البشري إلى أصل اقتصادي جديد".
في المحصلة، رفعت التكنولوجيا كفاءة الإنتاج وسرّعت تدفق المعلومات، لكنها في المقابل ركّزت العوائد في يد شركات المنصات الكبرى ووسّعت الفجوة بين رأس المال والعمل. ويرى الصقعبي أن "التحدي الأكبر اليوم ليس في التطور نفسه، بل في إدارة نتائجه، أي كيف نحافظ على التوازن بين التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في عالم تحكمه الخوارزميات".