عمليات إطلاق "سبيس إكس" الروتينية أفقدت السفر إلى الفضاء إثارته، وما كان خيالاً علمياً أصبح عمليات سفر وإطلاق صواريخ اعتيادية
في رحلة إلى فلوريدا العام الماضي، لم يكُن أحد ممن تحدثت إليهم في المتاجر أو المطاعم أو الفنادق أو سيارات الأجرة يعلم أنه على بعد أميال قليلة من الطريق ثمة صاروخ على وشك الانطلاق إلى الفضاء الخارجي. وبدا أن أحداً لا يولي الحدث أي اهتمام حقيقي. سيدة واحدة فقط أبدت بعض الفضول بالخبر، قائلة إنها ستحرص على إبقاء كلابها داخل المنزل في ذلك المساء كي لا ينتابها خوف بفعل الضوضاء.
في موقع "كيب كانافيرال" [في ولاية فلوريدا الأميركية]، أصبحت عمليات إطلاق الصواريخ روتيناً معتاداً، بمعدل صاروخ كل يومين تقريباً، إلى حد أن الإثارة التي كانت ترافقها عادة تلاشت. معظم عمليات الإطلاق هذه، بما فيها الإطلاقات التي حضرتها شخصياً، يجري تنفيذها باستخدام الصاروخ نفسه من تصنيع الشركة نفسها: "فالكون 9" Falcon 9 من "سبيس إكس" SpaceX. وسبق أن أطلقت شركة إيلون ماسك أكثر من 100 صاروخ من هذا النوع إلى مدار حول الأرض العام الحالي، في عدد يفوق مجموع الصواريخ التي أطلقتها جميع الدول والشركات الأخرى حول العالم مجتمعة.
ويعتمد نجاح "فالكون 9" على إمكان إعادة استخدامه. بعد الإطلاق، يعود الصاروخ للأرض ويهبط عمودياً على منصة للهبوط، حيث يُصار إلى تجهيزه وصيانته وإعادة تعبئته وإطلاقه مرة أخرى. مهما تكررت مشاهدتي لعمليات الإطلاق والهبوط، تبدو لي كأنها صور من صنع الكمبيوتر مليئة بتأثيرات بصرية، ولكنها لم تعُد حدثاً استثنائياً بعد الآن.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحدث الاستثنائي، أقله في الوقت الحالي، طريقة ابتكرتها "سبيس إكس" أخيراً لإعادة استخدام الصواريخ. بدلاً من هبوطها على منصة بعيدة من برج الإطلاق، توصل علماء الصواريخ في الشركة إلى إعادتها مباشرة إلى برج الإطلاق عن طريق الإمساك بها باستخدام آلية تشبه عيدان تناول الطعام "تشوب ستيكس".
نفذت "سبيس إكس" هذا النوع من الإنزال مرة واحدة فقط، ولكن باستخدام أكبر صاروخ صنعته على الإطلاق: "سوبر هيفي بوستر" Super Heavy booster التابع لمركبة "ستارشيب". يقول دانييل هيوت، مدير قسم الاتصالات في الشركة: "إنها بلا ريب أروع تجربة رأيتها في حياتي، وحقيقة أننا سنقوم بذلك في كل مرة تجعلني أشعر وكأن تفكيري قد تعطل قليلاً وما عاد قادراً على الاستيعاب".
الثلاثاء الماضي، نجحت الشركة في تكرار العملية التي نفذتها الشهر الماضي والتي تمثلت في إعادة الصاروخ إلى مكانه [باستخدام طريقة العيدان]. وعلى رغم الإثارة التي أحاطت بالعودة الأولى لصاروخ "ستارشيب"، بدا أن قليلين كانوا على علم في شأنها. الأشخاص الذين أتناقش معهم عادة حول "ستارشيب"، الصاروخ نفسه الذي يأمل ماسك في استخدامه لاستعمار المريخ، لم يعرفوا حتى أن إطلاقاً تجريبياً حدث هذا الأسبوع.
وعلى سبيل المقارنة، بعدما تابع أكثر من 40 مليون شخص بث "سبيس إكس" لرحلة "ستارشيب" الخامسة Starship Flight 5 في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، شاهد 13 مليوناً فقط الرحلة السادسة لـ"ستارشيب" الثلاثاء الماضي.
يميل البشر بطبيعتهم إلى كل جديد، وحتى مشاهدة الحدث المشوق المتمثل في عودة صاروخ بطول 120 متراً، أي أطول من برج الساعة "بيغ بن" في لندن، للأرض بمساعدة بعض عيدان "تشوب ستيكس" ميكانيكية عملاقة، سيصبح أمراً رتيباً في نهاية المطاف.
وافترض عالم النفس البريطاني دانيال بيرلين الذي أمضى معظم حياته في دراسة الفضول عند الإنسان، أن انتباهنا يكون في أعلى مستويات تركيزه عندما تبلغ ثلاثة عوامل ذروتها: الابتكار الجديد والتعقيد وعدم اليقين.
حقيقة أن الناس بدأوا يفقدون الاهتمام بعمليات إطلاق "ستارشيب" تعني أنها أصبحت مألوفة وبسيطة وموثوقة. وفي ذلك تطور إيجابي، إذا كانت البشرية ترغب في مواصلة استكشاف الكون.
وإذا أصبح إطلاق الصاروخ حدثاً عادياً على شاكلة إقلاع الطائرة، يفتح هذا التحول أمامنا مستوى جديداً تماماً من الابتكارات. ومن خلال دفع حدود الإنجازات المثيرة للاهتمام إلى آفاق جديدة، سيتعين على الابتكار التالي أن يكون أكثر استثنائية وإثارة للدهشة كي يبلغ ذروة اهتمامنا.
ثمة كثير من التطورات الجديدة التي يمكن التطلع إليها في مجال الفضاء. في الواقع، ثمة عدد لا نهائي منها. ومن خلال مشاركة "ستارشيب" في برنامج "أرتميس" Artemis التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، ستعمل على نقل أول مجموعة من البشر تصل إلى القمر للمرة الأولى منذ أكثر من 50 عاماً [بعد بعثة أبولو 17 عام 1972]. وإذا كان طموح ماسك جعل البشرية متعددة الكواكب [بمعنى أن يكون البشر قادرين على العيش والاستقرار على كواكب أخرى غير الأرض مثل المريخ]، فسيتحقق ذلك بواسطة "ستارشيب".
خلال البث المباشر لآخر إطلاق تجريبي، قالت "سبيس إكس" إنها تخطط لبناء مركبة فضائية جديدة "كل ثماني ساعات" من أجل بناء أسطول ضخم من الصواريخ يكون قادراً على نقل الطواقم البشرية والبضائع والإمدادات في جميع أنحاء النظام الشمسي. يمكن لكل سفينة أن تحمل 100 شخص، وفي رؤية ماسك، لن يكون هؤلاء رواد فضاء خضعوا لتدريبات متقدمة، بل ركاباً عاديين.
في طريقي إلى المنزل من فلوريدا، لاحظت أن معظم الناس، بمن فيهم أنا، بالكاد ألقوا نظرة خاطفة من نافذة الطائرة فيما كانت تحلق على ارتفاع 10 كيلومترات فوق الأرض. المنظر الذي كان بعيد المنال من كل البشر عبر التاريخ ما عدا الأجيال الأخيرة، أصبح الآن غير لافت. حتى رواد الفضاء على متن "محطة الفضاء الدولية" اشتكوا من شعورهم بالملل.
بالنسبة إلينا نحن على الأرض، ما زالت الحماسة موجودة في مدينة براونزفيل، في ولاية تكساس [موقع إطلاق "سبيس إكس"] التي تشهد إطلاق أكبر الصواريخ المصنوعة. ولكن إذ تبدأ هذه الإثارة بالتلاشي، فإننا نتطلع الآن إلى الابتكار أو الحدث الجديد التالي.
© The Independent