لم تعد ملكية الأقمار الاصطناعية تعود إلى دول كبرىر بل آلت إلى أثرياء يهددون نفوذ القوتين الأوروبية والأميركية على حد سواء
في أواخر أغسطس (آب) 2019، تلقى العلماء في "وكالة الفضاء الأوروبية" (اختصاراً ESA) تنبيهاً يحذر من اصطدام محتمل لأحد أقمارها الاصطناعية الرئيسة بأحد أقمار شبكة "ستارلينك" التي كانت أطلقتها حديثاً شركة "سبيس إكس" SpaceX المملوكة لقطب المال والتكنولوجيا إيلون ماسك. وعلى رغم توجيه رسائل إلكترونية إلى الشركة، أفاد فريقها بأنه لا يعتزم الإقدام على أي إجراء.
ومع تصاعد خطر الاصطدام، انقطع التواصل بين مشغلي القمرين الاصطناعيين، فيما عزت "سبيس إكس" الحادثة لاحقاً إلى "خلل في أنظمتها"، مما دفع "وكالة الفضاء الأوروبية" إلى مناورة تغيير مسار قمر اصطناعي في عملية هي الأولى في تاريخها لتجنب التصادم. فأطلق القمر الاصطناعي "إيولوس" Aeolus الذي يعادل حجم سيارة، محركات الدفع الخاصة به لتغيير مساره، وعلى بعد نصف مدار فقط قبل لحظة الارتطام المحتومة، نجح في تفادي الكارثة في اللحظة الأخيرة.
لو أن الاصطدام بين القمرين الاصطناعيين وقع فعلاً، لنتجت منه مئات الآلاف من الشظايا التي من شأنها أن تشكل سحابة من الحطام الفضائي، قادرة على إطلاق ما يعرف بـ"متلازمة كيسلر" Kessler Syndrome، علماً بأنها سلسلة متسارعة من الاصطدامات بين الأقمار الاصطناعية، تحول مدار الأرض المنخفض إلى مكب يعج بالخردة الفضائية المتطايرة، مهددة بتدمير شبكات الاتصالات البالغة الأهمية وجعل الأنشطة الفضائية المستقبلية متعذرة لأجيال مقبلة.
آنذاك، كان مدار الأرض المنخفض يحتضن أقل من 3 آلاف قمر اصطناعي نشط. أما هذا الأسبوع، فقد أطلقت شركة "سبيس إكس" القمر الاصطناعي رقم 10 آلاف ضمن شبكة "ستارلينك" Starlink، ليرتفع بذلك عدد الأقمار الاصطناعية النشطة إلى نحو 8 آلاف و500 قمر، أي ما يعادل قرابة ثلثي جميع الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض.
ووفق تقديرات "وكالة الفضاء الأوروبية"، من المتوقع أن يرتفع إجمال عدد الأقمار الاصطناعية في مدار الأرض إلى مئة ألف بحلول عام 2030، وستكون الغالبية العظمى منها جزءاً من شبكات إنترنت فضائية مترابطة تهدف إلى إتاحة الاتصال بالإنترنت في كل متر مربع من سطح الكوكب الصالح للسكن. غير أن هذا الطموح الكبير ينطوي أيضاً على مخاطر جمة للبشرية.
ويشير الإطلاق الأخير لأقمار "ستارلينك" إلى أن ماسك بات يسيطر على ثلثي الأقمار الاصطناعية النشطة. أغنى رجل على وجه الأرض أصبح اليوم الشخصية الأكثر نفوذاً في الفضاء، إذ تتولى شركته "سبيس إكس" تنفيذ الغالبية الساحقة من عمليات الإطلاق الفضائي حول العالم هذا العام.
ومن المرتقب أن توصل الشركة وحدها 90 في المئة من الحمولة الإجمالية [المركبات] إلى الفضاء بحلول عام 2025، لتتجاوز بذلك الأسبوع المقبل رقمها القياسي السابق البالغ 138 عملية إطلاق في عام واحد. وعندما كتب أحد متابعيه على منصة "إكس" قائلاً إن "سبيس إكس" تمثل فعلياً "البرنامج الفضائي الأميركي"، رد ماسك: "بل يمكن القول إنها البرنامج الفضائي للأرض برمتها".
وقد أثار احتكار ماسك الفضاء [بأقماره الاصطناعية] مخاوف من الاعتماد المفرط [للحكومات والمؤسسات وحتى الأفراد] على جهة واحدة للتحكم بالأقمار الاصطناعية الحيوية، ومن خطر إساءة استخدام هذا النفوذ المتنامي.
ويمثل تدخل ماسك خلال الحرب الروسية على أوكرانيا أحد أبرز الأمثلة على النفوذ الكبير الذي يتمتع به، إذ أصبحت شبكته "ستارلينك"، وفق مسؤولين أوكرانيين، "العمود الفقري للاتصالات" العسكرية الأوكرانية في ساحة المعركة. بفضلها تمكن الجيش من التحكم بالطائرات المسيرة "الدرونز"، وتنسيق ضربات المدفعية البعيدة المدى، وربط الجنود بأسرهم وأصدقائهم بعيداً عن خطوط القتال.
ولكن ماسك، في الأيام الأولى من الغزو الروسي، رفض طلباً من الحكومة الأوكرانية بتفعيل الخدمة قرب شبه جزيرة القرم. وفي وقت لاحق، أوضح الملياردير أن قراره جاء لتجنب تصعيد النزاع، بينما اتهمه مستشار بارز للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ"الإقدام على ارتكاب فعل شرير".
وفي منشور على منصة "إكس"، قال ميخايلو بودولياك إن أفعال ماسك ربما تقود إلى مقتل مدنيين وأطفال نتيجة الضربات الروسية، مضيفاً أن "هذه العواقب تمثل الثمن الفادح لمزيج من الجهل وتضخم الأنا [الغرور الأعمى]".
في الواقع، كشفت أفعال ماسك النقاب عن حجم النفوذ الذي في يده أن يمارسه على البنى الأساسية الحيوية، بل وعلى المشهد الجيوسياسي بأسره، بمجرد أن يقرر تشغيل خدمة أو تعطيلها. وقد شكل ذلك سابقة من نوعها، إذ لم يحدث من قبل أن امتلك فرد واحد قدرة على هذه الشاكلة من التأثير المباشر في مجريات العمليات العسكرية واتصالات الحرب.
وفي وقت سابق من العام الحالي، أعرب باتريس كاين، الرئيس التنفيذي لشركة "تاليس" Thales، إحدى كبرى شركات تصنيع الأقمار الاصطناعية في أوروبا، عن قلقه من الاعتماد على شخص "يخلط بين الدوافع الاقتصادية والحسابات السياسية"، في تحذير واضح من تنامي نفوذ شبكة "ستارلينك".
وقال كاين في مؤتمر صحافي عقد في مارس (آذار) الماضي إن "الجهات الحكومية بحاجة إلى الموثوقية والوضوح والاستقرار. عندما تكون مسؤولاً عن إدارة اتصالات حكومية [حساسة]، لا ترغب في أن تضطر إلى الاعتماد على طرف خارجي، أياً كان هذا الطرف".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هيمنة ماسك في هذا المجال دفعت المنافسين إلى إنشاء شبكاتهم الفضائية الضخمة الخاصة، من بينها مشاريع يمولها مليارديرات آخرون مثل "مشروع كويبر"Project Kuiper لجيف بيزوس، [أحد أثرياء العالم ورئيس مجلس إدارة "أمازون"]. كذلك تعكف الصين على إنشاء شبكات مدعومة من الدولة تضم عشرات الآلاف من الأقمار الاصطناعية، في ظل تحذيرات الخبراء من غياب التنظيم والرقابة في هذا القطاع.
وإلى جانب خطر "متلازمة كيسلر" المحتمل، حذر باحثون أميركيون من أن الأعداد الهائلة من الأقمار الاصطناعية تخلف مواد كيماوية ضارة في الغلاف الجوي عندما تحترق أثناء دخولها إلى الغلاف الجوي للأرض. ويبلغ العمر الافتراضي لأقمار "ستارلينك" نحو خمسة أعوام، فيما تشير تقديرات حديثة إلى أن قمراً أو قمرين من أقمار ماسك يسقطان نحو الأرض كل يوم.
كذلك أظهرت دراسة مولتها "الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي" (اختصاراً "نوا" NOAA) أن الجسيمات المنبعثة من الأقمار الاصطناعية القديمة ترفع درجة حرارة الطبقات العليا من الغلاف الجوي بما يصل حتى 1.5 درجة مئوية. كذلك حذر باحثون آخرون من أن تعاظم حالات سقوط الأقمار يشكل خطراً مباشراً على حياة البشر على سطح الأرض.
من جانبه، الدكتور سياماك هيسار، خبير حطام الفضاء والرئيس التنفيذي لشركة "كيهان سبيس" Kayhan Space المتعاقدة مع وكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، أخبر "اندبندنت" أن هذه "الصناعة تفتقر إلى نماذج دقيقة قادرة على التنبؤ بالوقت والمكان الفعليين لسقوط الأقمار الاصطناعية الكبيرة الخارجة عن السيطرة".
وأضاف هيسار: "يبقى التنبؤ بسقوط الأقمار الاصطناعية صعباً، لأن ديناميكيات دخولها إلى الغلاف الجوي للأرض تتأثر بعوامل سريعة التغير، مثل النشاط الشمسي وكثافة الغلاف الجوي واتجاه الجسم وتركيب مادته. ولا تستطيع النماذج الحالية تقدير هذه العوامل إلا بشكل تقريبي وفي الوقت الفعلي".
وعلى رغم حادثة الاقتراب الخطرة عام 2019 مع قمر "وكالة الفضاء الأوروبية"، تبقى "سبيس إكس" من بين أفضل الشركات في إدارة أقمارها الاصطناعية والتحكم بها.
وقال الدكتور هيسار إن "أنظمة "ستارلينك" متقدمة على منافسيها في أمور عدة، من بينها الدفع الذاتي للأقمار، والمراقبة المستمرة، والتجنب التلقائي للاصطدامات. أضف إلى ذلك الإعلان الصريح عن مواقع الأقمار ومساراتها وخطط المناورات.
وأوضح هيسار أن "هذا المستوى من الإدارة النشطة يقلص بشكل كبير مخاطر التصادم ويضمن التخلص الآمن من الأقمار الاصطناعية عند نهاية عمرها التشغيلي. في المقابل، لا تشارك كثير من الشركات المشغلة الأخرى خطط مناوراتها مع الآخرين، مما يرفع مستوى المخاطر في المدار".
ومع انضمام مزيد من الجهات إلى سباق الفضاء، تتصاعد أخطار اندلاع "متلازمة كيسلر". وقد صرح ماسك مراراً بأنه يأمل في أن يموت على كوكب المريخ، بينما يعتمد على "ستارلينك" في تمويل طموحه الأقصى المتمثل في إنشاء مستعمرة بشرية دائمة على الكوكب الأحمر. ولكن إذا وقعت "متلازمة كيسلر" فعلاً، قد يجد ماسك نفسه عالقاً على كوكب الأرض.
© The Independent