اضطرابات الأكل قد تودي بحياة من يكابدها أو تصيبه بسوء التغذية
أمام البرتقال يدب الرعب في نفس كلير دي. تعجز عن لمس هذه الفاكهة، أو حتى الاقتراب منها. أخبرتني والدة طفلين بالغة من العمر 39 سنة أن خوفها "لا يتعلق بالرائحة فحسب، إنما بالثمرة كلها: اللب والقشرة والفصوص. أنا أتجنبها بكل وسيلة ممكنة".
يحلو لكلير أن تتناول الليمون الحامض، بيد أنها غير قادرة على تقشير برتقالة لطفليها اللذين يبلغان من العمر سنتين وخمس سنوات، كذلك يعرف زملاؤها في إحدى شركات التكنولوجيا في لندن أنهم لا يستطيعون تقشير واحدة من هذه الفاكهة على مكاتبهم أمامها. لم ترغب كلير يوماً في تناول البرتقال، ولكنها تعتقد أن رهابها ينبع من تجربة معينة مرت بها في طفولتها. تتذكر بوضوح عندما قدم لها أحدهم شرائح برتقال في كيس بلاستيكي شفاف عقب مباراة في كرة الشبكة، وشعرت حينها بغثيان وتقلبات في المعدة. وتتابع قائلة، "أعلم أن لا أساس عقلاني لشعوري هذا، بيد أنني لا أملك أي دافع للتغلب على رهاب البرتقال، ولكن التعامل معه يصبح صعباً في عيد الميلاد، إذ تجد البرتقال بكثرة في كل الاحتفالات والمناسبات".
في الحقيقة، فوبيا الطعام ظاهرة شائعة في مختلف مجالات الحياة. لا تستطيع آنا ماكسويل مارتن، نجمة المسلسل الدرامي البريطاني "لاين أوف ديوتي" Line of Duty (خط الواجب) أن تتحمل الاقتراب من السندويتشات والمايونيز وحتى الثلاجات المفتوحة غير المرتبة. أما عارضة الأزياء والشخصية الإعلامية المشهورة كيندال جينر، فتعاني "التريبوفوبيا"، التي تتخلص في الخوف الشديد من الثقوب الصغيرة التي تتكرر في أنماط معينة، من قبيل الثقوب الموجودة على سطح الفطائر. وبدوره يكره الممثل البريطاني إدي ريدماين البيض. تجده يعجز حتى عن حملها بيديه. تكره النجمة الأميركية سارة جيسيكا باركر البقدونس، وكي تبقى بمنأى عنها، جعلت كاري، الشخصية التي تؤدي دورها في مسلسل "سكس أند ذا سيتي" Sex and the City(الجنس والمدينة)، تنفر من البقدونس أيضاً. وبالنسبة إليَّ شخصياً، أنا لا أستطيع أن أكون على مقربة من التونة المخلوطة مع الذرة الحلوة. ربما مرد ذلك إلى أنني تناولت كميات مفرطة منها في بداية العشرينيات من عمري.
يقول كريستوفر بول جونز، متخصص في الرهاب مقيم في لندن، ومؤلف كتاب "واجه مخاوفك: 7 خطوات للتغلب على الرهاب والقلق" Face Your Fears: 7 Steps to Conquering Phobias and Anxiety، إن فوبيا الطعام، المعروفة أيضاً باسم "السيبوفوبيا" cibophobia، عبارة عن خوف أو قلق شديد ناجم عن أطعمة معينة. قال لي في هذا الشأن: "ربما يظهر هذا الخوف نتيجة النظر إلى الطعام، أو شم رائحته، أو حتى مجرد التفكير فيه". ويزعم أن رهاب الطعام ينبع غالباً من تجارب سلبية في المرحلة المبكرة من الحياة، تعرف باسم "التكييف البافلوفي" Pavlovian conditioning [نوع من التعلم يعتمد على الإشراط الكلاسيكي اكتشفه العالم الروسي إيفان بافلوف ويعتمد على ارتباط بين محفز محايد واستجابة عاطفية أو سلوكية معينة. مثلاً، إذا تعرض شخص ما لتجربة مؤلمة مرتبطة بنوع معين من الطعام مثل التسمم من السمك، يربط دماغ الشخص هذا النوع من الطعام بمشاعر الخوف والقلق. كذلك يعتقد أنه السبب وراء كثير من صور الفوبيا].
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المحتمل أن تشمل هذه التجارب الاختناق، أو ردود فعل تحسسية، أو صدمات عاطفية متعلقة بالطعام، مثل الإجبار على تناول الطعام في سنوات الطفولة ثم الشعور بالإعياء نتيجة لذلك. ويقول جونز: "بهذه الطريقة، يسعنا اعتبار رهاب الطعام نسخة متطرفة من النفور الذي ينشأ لدى بعض الناس بعد تناول كمية كبيرة من الكحول ثم الشعور بالغثيان عند رؤيته أو شم رائحته".
في حال تركت هذه المخاوف من دون علاج، يمكن أن تتطور وتتفاقم مع مرور الوقت، ما يؤدي إلى اتباع نظام غذائي مقيد جداً [محدود في تنوعه] يؤثر في صحة الشخص. جونز، علماً أنه معالج نفسي حاصل على تدريب شامل ومعالج بالتنويم المغناطيسي السريري، يجمع بين علم النفس التقليدي مثل العلاج السلوكي المعرفي (اختصاراً CBT) وتقنيات التدخل من قبيل العلاج بالتنويم المغناطيسي السريري، وإزالة التحسس وإعادة المعالجة [للتجارب المؤلمة] بحركة العين (EMDR)، واليقظة الذهنية بغية تحقيق التغيير السريع.
ويدعي جونز أنه من طريق كسر الاتصال العاطفي الذي يثير استجابة الخوف، يستطيع أن يضع حداً لمعظم أنواع الرهاب في جلسة واحدة إلى أربع جلسات من العلاج. وأن منهجه المتعدد الجوانب، خلافاً للعلاج بالتنويم المغناطيسي التقليدي، يركز بصورة أكبر على معالجة السبب الأساس للمشكلة [ولا يكتفي بالتعامل مع الأعراض أو النتائج الظاهرة].
وفق المتخصص في فوبيا الطعام فيليكس إيكونوماكيس، الذي يدير عيادة خاصة للعلاجات الصحية في هامبستيد في لندن، معظم الأشخاص الذين يعانون رهاب الطعام الشديد يكتفون بتناول صنفين من الطعام فحسب، مثل قطع الدجاج المقلية "الناغتس" ورقائق البطاطا المقلية. ولكنه ذات مرة، عالج رجلاً في منتصف العمر لم يأكل سوى الخبز طوال حياته.
ويوضح إيكونوماكيس قائلاً: "إذا كان الدماغ يعتقد أن الطعام خطر، يكون من المنطقي تماماً تجنبه. ولكن الدماغ يعرف أنه يحتاج إلى الغذاء من أجل البقاء على قيد الحياة، لذا سيختار نوع الغذاء الذي يراه الأكثر أماناً". ولكنه مع ذلك يشير إلى أنه في الغالب من الممكن الخلط بين رهاب الطعام وفقدان الشهية، في حين أن الأول في الواقع عبارة عن "غياب الثقة في الطعام، وعادة ما يكون هذا الشعور غير مبرر". ويتابع: "يكابد المصابون بفوبيا الطعام شعوراً بالخوف المرضي تجاه أطعمة معينة، فترتجف أجسادهم تماماً كما لو أنك قدمت لشخص ما عنكبوتاً".
[وعلى سبيل المثال يروي تجربته] مارك*، طالب من مدينة توركواي الإنجليزية الذي يبلغ من العمر 23 سنة. فكعك الرز المدهون بالزبدة ومعجون المارمايت الشهير شكل لفترة طويلة الجزء الأكبر من نظامه الغذائي. أخبرني أن والدته كانت تضع الفيتامينات سراً في معجون تحت طبقة المارمايت في محاولة ملحة للحفاظ على صحته عندما كان طفلاً. وفي سن الـ16، أضاف قطع الناغتس ورقائق البطاطا المقلية إلى نظامه الغذائي. وفي عيد الميلاد، يكون طبقه المميز على الغداء مجموعة مختارة من بسكويت "جاكوبز كراكرز".
ويضيف مارك: "كان يعتريني قلق شديد إذا اضطررت إلى حضور حفلة لأني كنت أخجل من تناول كعك الرز فحسب، 12 قطعة في اليوم كحد أدنى. لم يشخص الأطباء إصابتي بأي اضطراب نفسي على الإطلاق. لو أنني حصلت على تشخيص محدد كنت تنفست الصعداء". ولكنه بدلاً من ذلك، عانى في صمت. "شعرت بالاختلاف والعزلة والخوف، وواجهت قلقاً من التفاعل مع الآخرين ودرجة خفيفة من الاكتئاب".
ما زال مارك انتقائياً جداً في خياراته من الطعام، ولكنه منذ التحاقه بالجامعة، حمل نفسه على تجربة العصائر، إذ وجد أنه يقبل أكثر على تجربة المشروبات بدلاً من تناول الأطعمة الصلبة. لا يبحث هذا الشاب عن مساعدة أو استشارة علاجية للتعامل مع مشكلته، ويشعر بالرضا عن حاله. "لا يزال كعك الرز طعامي الآمن. إنه خيار مألوف بالنسبة إليَّ، التفكير في تجربة أطعمة مختلفة يخيفني بشدة. تعزو والدته رهابه من الطعام إلى صدمة تعرض لها، إما عندما اختنق في صغره [حين تناول الطعام]، أو عندما غضبت منه عاملة الحضانة لأنه كان يتسبب في الفوضى عند تناول الطعام.
تخبرني المعالجة النفسية كيري جونز أن فوبيا الطعام تظهر بصورة متكررة أكثر في حالات اضطراب تناول الطعام التجنبي/ المقيد (اختصاراً ARFID)، وتتميز هذه الحالة المعقدة بتجنب بعض الأطعمة التي، وهذه النقطة الأهم، لا علاقة لها بصورة الجسد [صورة المرء عن نفسه] أو المخاوف المتعلقة بالوزن. وتقول: "بدلاً من ذلك، يمكن أن ترتبط بمشكلات حسية، أو صدمة، أو خوف من تأثيرات مضرة، مثل الاختناق أو الغثيان".
وتقول كيري إن فوبيا الطعام أقل شيوعاً إلى حد ما مقارنة مع أنواع أخرى من اضطرابات الأكل، من قبيل فقدان الشهية أو الشره المرضي أو اضطراب الشراهة عند تناول الطعام، ولكنها مع ذلك تطاول عدداً كبيراً من الأشخاص. وتضيف أنه "بالنسبة إلى بعض الأفراد، تغلب هذه الفوبيا على حياتهم، فيقتصر نظامهم الغذائي على عدد قليل من الأطعمة "الآمنة" في رأيهم".
في المملكة المتحدة، تقدم "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" ("أن أتش أس" NHS) عادة "العلاج السلوكي المعرفي" (CBT) أو "العلاج الأسري" لعلاج فوبيا الطعام. وتشمل التقنيات الأخرى المستخدمة "سلسلة الطعام"، بمعنى إنشاء "سلاسل" بين الطعام الذي يتناوله مصابو فوبيا الطعام أصلاً وبين أصناف الطعام الجديدة المتشابهة معه في الطعم أو اللون أو الملمس. ولما كانت هذه الأساليب، من بينها العلاج بالتعرض [للطعام الشائك] أيضاً، تستغرق أسابيع وأشهراً عدة، تبقى خيارات العلاج السريع، مثل العلاج بالتنويم المغناطيسي، أكثر جاذبية.
بالنسبة إلى مارك وكثيرين غيره يعانون فوبيا الطعام، يشعرون في المناسبات الخاصة بحرج كبير بسبب عاداتهم الغذائية. يقول: "على رغم أنني أحرزت تقدماً في سلوكياتي الغذائية، كنت قلقاً بعض الشيء من الطلب من أمي وسؤالها إذا كان في إمكاني العودة إلى طبقي التقليدي المعتاد في عيد الميلاد هذا العام وتناول بسكويت جاكوبز كريمي كراكرز مع الزبدة".
يعتقد مارك أنه ربما رفع توقعات أمه أكثر من اللازم، إلى حد أنها ربما تعتقد أنه سيعود إلى المنزل متشوقاً لتناول ديك رومي مشوي وكل الأطباق الجانبية، ولكنه يوضح: "في الحقيقة، حين [أتجاوز العثرات] أحتفل سأطلب بعض مثلثات الجبن الإضافية مع البسكويت".
*استخدمت في هذا المقال أسماء مستعارة حفاظاً على الخصوصية
© The Independent