شرح-قصيدة-أنشودة-المطر/

يعد بدر شاكر السياب صاحب قصيدة أنشودة المطر "أنشودة الانبعاث والموت"، من الشعراء الذين ضمنوا مفهوم البعث الفكري للحضارة وأنشودة المطر هي إحدى قصائد الديوان، التي سمي الديوان باسمها والذي فاز فيها الشاعر بجائزة مجلة شعر في لبنان عام 1960.[١]

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ

أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ

عيناكِ حين تبسمانِ تورقُ الكرومْ

وترقصُ الأضواءُ، كالأقمارِ في نهَرْ

يَرُجُّهُ المجذافُ وهْنًا ساعة السَّحَرْ

كأنَّما تنبضُ في غوريهما، النّجومْ

وتغرقانِ في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

كالبحر سرَّح اليدين فوقَهُ المساءْ

دفءُ الشتاء فيه وارتعاشةُ الخريفْ

والموت، والميلادُ، والظلامُ، والضياءْ

فتستفيقُ ملءَ روحيْ، رعشةُ البُكاءْ

ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانقُ السَّماء

كنشوة الطفل إِذا خافَ منَ القمرْ!

كأنَّ أقواسَ السَّحابِ تَشَربُ الغيومْ

وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطرْ

وكركرَ الأطفالُ في عرائشِ الكرومْ

ودغدغتْ صمتَ العصافيرِ على الشجرْ

أنشودةُ المطرْ

مطرْ

مطرْ

مطرْ

يتخيّل بدر شاكر السياب في هذا المقطع حبيبته التي يشبّه عينيها بلون غابة النخيل في الليل، وقت السحر تحديدًا، ويصف جوَّ مدينته العراقية الهادئة التي تحمل في سكونها كلَّ مظاهر الطبيعة، فيُسقط هذا الجمال الإلهي على عينَيْ حبيبته بطريقة شاعرية مذهلة.


فيصف شجر الكروم، والقارب الذي يسير في النهر القريب، والنجوم التي تلمع بضوئها الذي يكاد يغيب في شحوب المساء التي يغطيها ضباب خفيف، ثمَّ يتحدّث عن أطفال العراق وضحكاتهم وكركراتهم ولُعَبِهم فيعود إلى طفولتِهِ القديمة، ويذكر كيف يتساقط المطر على العصافير التي تتنقل بين غصون الشجر، فيقول:

ودغدغتْ صمتَ العصافيرِ على الشجرْ

أنشودةُ المطرْ

مطرْ

مطرْ

مطرْ

ثم يقولُ السَّيَّابُ في قصيدتهِ أنشودة المطر:

تثاءب المساءُ، والغيومُ ما تزالْ

تسحُّ ما تسحّ من دموعِها الثقالْ

كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينامْ:

بأنَّ أمّه التي أفاقَ منذ عامْ

فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤالْ

قالوا له: "بعد غدٍ تعودْ .. "

لا بدَّ أن تعودْ

وإِنْ تهامس الرفاق أنَّها هُناكْ

في جانب التلّ تنام نومةَ اللّحودْ

تسفُّ من ترابِها وتشربُ المطرْ

يصف الشاعر في هذا المقطع قصّة وفاة والدته التي فارقتِ الحياة وهو ابن ست سنين، فيقول عن نفسه أنَّه استيقظ ولم يجدْ أمَّهُ وكذبوا عليه وقالوا له إنَّها ستعود، وأنَّها هناك قريبة من التلِّ نائمة في لحد تشرب مطر السماء كأنَّها وردة.

كأنَّ صيادًا حزينًا يجمعُ الشِّباكْ

ويلعنُ المياه والقَدَرْ

وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ

مطرْ ..

مطرْ ..

أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعث المطرْ؟

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمرْ؟

وكيف يشعر الوحيدُ فيه بالضّياعْ؟

بلا انتهاءٍ كالدَّم المُراقِ، كالجياعْ

كالحبِّ، كالأطفالِ، كالموتى، هو المطرْ!

ثمَّ يصف السيّاب ويسأل حبيبته عن مدى الحزن العميق الذي يبعثه المطر في داخلِهِ عندما ينهمر بشدّة، وكيف يشعر لحظة انهمار المطر من السماء بالوحدة والضياع والتِّيهِ، ولهذا استطاع الشاعر أن يمنح المطر صفة الحياة الموت فيصفه بأنَّه يشبه الحب ويشبه الإنسان ويشبِهُ الموتى.



يعتمد السياب في مجمل شعره المبكر وفي ديوان أنشودة المطر بشكل خاص على ما يعرف الخيال الابتكاري والذي يجد برهانًا حيًا عليه كثرة اعتماده على الأساطير يطوعها لقضاياه الاجتماعية ويولد منها صوره الفنية حتى حق له أن يكون شاعرالصورة الفنية في شعرنا الحديث.[١٤]


لعل من أهم هذه الأساطير أسطورة عشتار وتموز كما يدل سياق النص إذن فنحن أمام شعرية الانبعاث الحضاري والقيامة والخصب الذي يتهدد القراءة التي استغرقت العراق.[١٥]



هذا الانبعاث يعطي السياب أبعادًا مختلفة حتى كأنها شخصت بغير الشخص الذي يستعملها حتى يمكننا القول: إننا أمام السياب الواقعي، والسياب الرومانسي.[١٧]

وهي الشخصيات التي اتسع إليها النص حتى صارت قادرة على إخراج ما تحفل به ذات الشاعر من وتناقضات أوقعتها في نفسه هذه الحياة المفككة وإذا هبطنا من سماء الخيال الكلي إلى أرض الخيال الجزئي حيث التشابيه والاستعارات والكنايات نجدها متضافرة معاً لأداء نفس المهمة وهي: إخراج عالم الشاعر المتنوع إذ نرى الواقع وبدائله يدرجان معًا أمام عيوننا.[١٨]



يشير بهذه التشبيهات إلى ما يضطرم في نفسه من أمل في التحرر من الليل والظلم حتى يصل بنا إلى الأجواء الهادئة المفعمة بالسكينة والسلام.[١٨]


وقوله:

وترقص الأضواء كالأقمار في نهر ، يشير بهذه الاستعارات إلى الضجر وبيان طول الانتظار والملل المصاحب له والذي سرعان ما ينقلب إلى طاقة متفجرة بالجمال والأمل والتفاؤل والبهاء.[١٨]


أو قوله:

يشير بهاتين الكنايتين عن صفتي المذلة والهوان من جهة والسعادة والغبطة من جهة أخرى إلى أن الواقع منسوخ ببدائله والعدالة سوف تجب الظلم وتحتل مواقعه وراياته.[١٨]

يسمعهم ويدفعنا إلى الاستماع إليهم حتى نعرف شكواهم ونرى تضررهم وكيف أنهم لم ينزحوا عن هدرتهم بغير التمرد والثورة والهبوب المشبوب:[١٨]


إذًا، فالسياب هو رائد الشعر الحر، ومسيرته مسيرة هذا الشعر الحديث الذي لولاه لما اتضحت ملامحه وأخذ سيماته،[١٩] إن القصيدة مدينة له ولأسلوبه في التعبير بالصور الذي ارتقت معه عملية الإبداع حتى الصار الشاعر من حيث يعبر عن نفسه يعبر عن مواطنيه من حوله، وعن بني الإنسان في كل حلم أو معاناة.[١٨]


السياب من الشعراء التموزيّين الذين عالجوا موضوع الموت والبعث، واللفظة مأخوذة من الإله تموز الفينيقي الذي يموت ويبعث من رماده، يريد هؤلاء الشعراء حين يعالجون حكاية الموت والانبعاث بعث الشعب العربي وقيامته وإخراجه مما يصدر فيه من جمود وتخلف وفقر وظلم، من هنا تأتي القيمة الرمزية للمطر الذي يشكل محورًا تدور حوله مجموعة من الرموز الفرعية، وهنا لا بأس من بعض الإشارات قبل تجلية هذا الرمز وتوضيحه. [١٨]



لهذا فالسياب يصدر عنن مخزون فني مرتبط بثرائه الوجداني المتشبع بالأصالة ، من جهة ثانية نجد الناحية التجديدية الحداثية التي يمكن عزوها إلى تأثره بالشاعرة إدييث سيتول في قصيدة "still falls the rain" التي تكرر فيها لفظة المطر وتستنفد عبرها كالسياب حمولات وجدانية ونفسية [٢٠]:



لا بأس من ربط المطر بالتطلع والعطش إلى المعرفة والفهم والإدراك لاسيما والمطر رمز نعثر عليه في كل ديوان من دواوينه، من هنا يسهل علينا إدراك سبب الحزن الذي يتسم به المطر ذلك الحزن الذي يتصل بغربة الشاعر وإحساسه بالوحدة وهو اليتيم: يتيم الأم ويتيم الوطن، وهو يتم يعبر به الشاعر عن غيره كما عبر به عن نفسه كأننا أمام حرمان عام وجوع قومي يقول السياب:[٢١]



هذه الدلالة السوداء للمطر، هي دلالة الانتقال، حيث المعاناة والدم المتدفق وألم المخاض بمثابة مفصل للانتقال من العالم التموزيّ السفلي عالم الظلمة إلى عالم النور إلى القيامة العالم الفتي المتفجر بينابيع الحياة. [٢٢]


الحب رمز لتواصل الحياة للسلام والسكينة والجمال والبهاء ، للرحلة المطمئنة الآمنة التي يوقعها المجذاف بضرباته الرتيبة التي وكأنها توشوش الماء وتلقي على سمعه أنشودة الحب الأثيل، لذلك افتتح السياب مطولته بعيني الحبيبة اللتين هما عينا الوطن أيضًا بريفه الممتد اخضرارًا ومدينته المشرفة على كل ضياء [٢٣]


البدء من المرأة لأنها رمز العودة إلى الجذور لأنها البداية والمنعطفات الأولى ، لأنها جواهر الأشياء، لأنها فوق ذلك كله رمز للتفاعل مع الحياة والوجود لإعادة ترميم ما تهدم ، ولأنها قبل ذلك كله الوطن ، لأنها جيكور القرية المكان الأول القطب الذي منه نفهم مزدوجات الحياة إذ هي الوجه الآخر للمدينة كذلك فالسياب بين العودة إلى الطفولة أو المضي في الكفاح الموت من أجل البعث ن لذلك كانت عينا الحبيبة تطيفان مع المطر ولكن هناك ظلمة مترصدة تقف أمام هذا الشروق هذا الجمال وتكاد تلوي به إن لم يتمرد ويثور [٢٤]


وجيكور الذي يرمز له الحب المتمثل في عيون الحبيبة ومقلها هي عبارة فارسية تأتلف من كلمتين  :جوى كور أي الجدول الأعمى لذلك نرى الليل يسحب على بروق المطر دثارًا من دم.[٢٥]


الليل رمز الظلم، رمز غياب العدالة رمز الجوع والحرمان والشقاء رمز الطبقة التي تريد أن تحرم العراق من إمكانياته المادية وخيراته ، وهو رمز اللحود والقبور أيضًا ؛ لهذا نجد الحبيبة الوطن هي الأم كذلك ونحن نعلم كيف يتم السياب صغيرًا وفقد أمه ، هذا الفقد الذي سينزله في أتون قلق لا يستقر بعده أبدًا ويظل يرشح في قصائده جاعلًا صورة الأنثى متقلقلة بين معاني متضاربة لا يمكن إنهاؤها إلى معنى محدد.[٢٦]





لقراءة المزيد، انظر هنا: شرح أنشودة المطر.

أعلن في شمرا